تجربة لجنة الطوارئ الوطنية للحركة الأسيرة.. دروس في فقه المواجهة
كانت تجربة لجنة الطوارئ الوطنية العليا حصان المرحلة، وأهم وأخطر اختبارات الأسرى من جيل الانتفاضة الثانية، وقدرته على التعلم من أخطاء التجارب السابقة والبناء على النجاحات.
عندما قرر الأسرى الستة التحرر هروباً من سجن جلبوع، كانوا يصنعون لأنفسهم أقدار حرية جديرة بالحلم، وفي الوقت الذي كانوا يسيرون فيه بحلمهم المقدود بالأيدي والملاعق، والصخر والتراب، والمعاند لشروط الانقسام وتكاثر الخيبات والهزائم، كان سجانهم المخذول والمخبول يصنع لكل من تبقى في السجن جحيماً من الويلات متوعداً بالثأر والانتقام وبالعودة بالمعتقلين إلى عصر السجون الحجري.
كم كنا قبل عملية "نفق الحرية" نلعن طويلاً فرقتنا وضعفنا وشتات أمرنا، وكنا نندب الظلمة ونناجي النور المستعصي والعنيد، وكنا على حالنا حتى وجدنا أنفسنا مجتمعين (بتنوّعنا وباختلاف آرائنا وبشتات أمرنا) تحت ضغط الهجمة الثأرية والعقوبات الجماعية، ونحن لا نملك من أمرنا حينها إلا الاختيار بين وهم الركون إلى سلام الانتظار، أو الانحياز إلى وضوح نار المواجهة.
حينها، نظرنا إلى محيطنا جيداً، فرأينا احتراق كل المراكب وانعدام الخيارات على وقع هجمة السجان،
وأنه لا خيار إلا محاولة مواجهته متحدين تحت الضغط، فلا ترف يتيح لنا انتقاء النظريات ولا اختيار البرامج، ولا نقاش البدائل، ولا وقت لعقد المصالحات المضنية بين أطراف الحركة الأسيرة التي تجاذبتها واستقطبتها قيود الانقسام السياسي القديم، وإرادة السجان المتجددة بتعميق التشرذم والخلاف ومحاولة كسر روح المناضلين وسحق وعيهم الوطني.
في ظل تلك المناخات وعبر وسائل الاتصال المهربة والملاحقة، وفي ظروف انعدام اليقين، اجتمع قادة الأسرى من فتح وحماس والجهاد الإسلامي وفصائل اليسار (الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب) تحت إطار لجنة طوارئ وطنية عليا، هادفة لإدارة الأزمة وقيادة المواجهة.
كان أول الاجتماعات عبارة عن اختبارات لقدرة الأطراف على احتمال الاختلاف، وتحليل الأهداف المشتركة، واختبار مصداقية الأقوال والمواقف حين تترجم إلى أفعال، واختبار القدرة على تجاوز الخلافات المستجدة، والإشكاليات الطارئة، واختبار القدرة على مواجهة الكثير من دعوات التثبيط وسهام العداوات حتى بين ذوي القربى من الأسرى والمناضلين الذين لم يستطيعوا إدراك خطورة أسئلة المرحلة، ولا النهوض بأعبائها المرهقة.
اختبارات كان الواحد منها كفيلاً بإفساد كل تجربة لولا حرص النواة الصلبة من قادة الأسرى على الاستمرار في المسير، بإدراك عميق للحكمة الشائعة "أثناء عبور النهر لا تستبدل حصانك".
كانت تجربة لجنة الطوارئ الوطنية العليا حصان المرحلة، وأهم وأخطر اختبارات الأسرى من جيل الانتفاضة الثانية، وقدرته على التعلم من أخطاء التجارب السابقة والبناء على النجاحات، وتحقيق تراكم من المعرفة والقوة والشرعية أتاح على مدار العامين المنصرمين وعبر إطار عمل وطني موحد إدارة أربع أزمات مع السجان والخروج منها منتصرين من دون دفع أثمان تذكر.
وكان آخر تلك الأزمات وأصعبها المواجهة في شهر رمضان المنصرم، والتي كادت أن تتطور إلى إضراب مفتوح عن الطعام تحت شعار الحرية أو الشهادة لولا تراجع الحكومة الصهيونية عن دعمها لتوجهات بن غفير ولجمه عن الانقضاض على مكتسبات الحركة الأسيرة.
لقد أثبتت حكمة تجربة لجنة الطوارئ الوطنية أن الشعارات لا تقوى على تغيير الواقع، لكن مجرد الفعل قادر على تصويب فوضى المواقف الكسولة والمبهمة، وأن انتظار الفرج أو النصر لا يأتي به وإنما يؤجله، وأن أخطاء التجربة والمحاولة أقل ثمناً من خطايا السكون والعجز والنكوص، وأن بإمكاننا تحقيق الانتصار بتسجيل النقاط إن لم تتوفر شروط الضربة القاضية، وأن تحقيق بعض الأهداف بداية مقدم على دفع الأثمان الباهظة مسبقاً، وأن الانتصار يحيد عدواً واضحاً وقد يغري بخصومات مضللة، لكن تحقيق مزيد من النجاحات والانتصارات يقلل حظوظ تلك الخصومات.
تمثل تجربة لجنة الطوارئ الوطنية العليا نموذجاً يحتذى به في السياق الفلسطيني المشظى والمنهك، تجربة مفادها أن الاتحاد في المواجهة أقل البدائل ثمناً، وأكثر المقاربات سلامة في زمن الحرب، وأن شروط الوحدة تنتج من شرعية الفعل والإنجاز للفاعلين المتحدين تحت ضغط المواجهة، وأن شروط الانتصار لا تكون إلا إذا سبقت الإرادة القول وأخضعها الفعل لقيادة العقل نحو متطلبات كل مرحلة وشروطها وظروفها.