التغريبة!
لم تتوقف تغريبة الفلسطينيين من المخيمات إلى القبور أو إلى السجون. سنبقى في رحلتنا الدائرية ما دامت دوائر الصراع مفرغة وحلقات السلاسل صلبة.
قبل أسابيع، كنا نودّع كريم يونس؛ آخر المتحررين من سجن هداريم. ودَّعناه ونحن نحزم أمتعتنا ونستعدّ لرحلة تهجير جديدة من سجن "هداريم" الساحلي الذي يحمل هواؤه تمرد النسيم المشبع بشذا بيارات البرتقال، إلى سجن "نفحة" الصحراوي الَّذي "يعمر" الجبال المتوارية في بحر صحراء النقب.
في فلسطين، لا يغدو السجن عند اختباره مجرد مكان اعتقال، إنما يكون موقعاً متقدماً من مواقع النضال، وحيزاً يمارس فيه الأسير الفلسطيني كل ممكنات الحياة؛ ففي معتقل "هداريم"، التقيت والدي أسيراً في أول رحلة الاعتقال، وفيه أتاني زائراً، ومنه ودّعته آخر مرة قبل وفاته.
في "هداريم"، عشنا برفقة زملاء أسر كثر، منهم من تحرر، ومنهم من استشهد، ومنهم من عاد إلى السجن مجدداً، ليخبرنا عن أحوال أهل "الحياة" في الخارج.
في السجن، نتعلم ونتثقف ونتريض. وقد يزورنا الحب كما يداهمنا الغضب. في السجن، قد ننسى كما نتذكر ونشقى وترهقنا أوجاع التقاء العجز بهشاشة الأمل أمام صلف الواقع وصرامته.
في السجن، قد نحلم ونصحو من أحلامنا، ونمارس حياة الأسر باعتياد بشروطها المجحفة. في السجن، لا يصبح الحيز عدائياً بالضرورة، ففيه تُبنى مشاهد حياة كاملة، وإليها ترنو الذاكرة مع كل نوبة حنين مفاجأة.
عندما غادرنا "هداريم" في تغريبتنا نحو الجنوب، حُمِّلنا ببطن شاحنات حديدية مغلقة النوافذ إلا على بعض الثغرات التي تسمح لنا برؤية خاطفة لمعالم الطريق. وعلى الطريق، صادفنا فلسطينيين على معرفةٍ بشاحنات الأسر وما تحمل في بطونها من أسرى ومعتقلين، فحيَّانا الفلسطينيون المارون على الطرقات، وأنكر مشهديتنا الغريبة المستوطنون الفرحون السائرون على "أرض الميعاد" بثقة المؤمن بانتصاره المطلق على المكان وأهله الأصليين.
في سجننا الجديد، ما زال نائل البرغوثي وجمعة أدم ومحمود خرابيش وناصر ومحمود أبو سرور يتذكرون تغريبتهم الأولى، عندما تسلمت سلطة الحكم الذاتي المتولدة عن اتفاق أوسلو سجن "الجنيد" في نابلس، وأهملت سجناءه الذين تم ترحيلهم في حافلات عبرت مدن الضفة وقراها ومخيماتها نحو سجون الداخل (سجن "نفحة" و"عسقلان" و"السبع")، إذ لم يكن سجن "هداريم" قد بني بعد.
في رحلتهم تلك، دعا نائل البرغوثي زملاءه المنسيين إلى دفع الحافلة على أول منعطف، لعلهم بذلك يوقفون عبث تغريبة ترحيلهم من سجون إلى أخرى.
لم تنحدر حافة الأسرى يومها، ولم تتوقف تغريبة الفلسطينيين من المخيمات إلى القبور، أو إلى السجون، من "الجنيد" إلى "نفحة"، ومن "نفحة" إلى "هداريم"، ومن "هداريم" إلى "عسقلان" و"ريمون" و"النقب" و"السبع" و"عوفر" و"مجدو" و"جلبوع".
سنبقى في رحلتنا الدائرية ما دامت دوائر الصراع مفرغة وحلقات السلاسل صلبة ومفولذة. ولا يكسر تلك الدوائر ولا السلاسل فرص النجاة الفردية لكلِّ من أنهى حكمه من الأسرى؛ ففي السجن الصهيوني، هناك 553 أسيراً محكوماً بالمؤبد، لا تُكسر أغلالهم إلا عنوةً بالغصب والقوة. وإلى حينه، سنحيا في السجن ونعمره بتمردٍ على كل قهره، وسنصارعه لنبقى أحراراً كما تريد لنا فلسطينيتنا أن نكون.