اعتذار كريم
أرواح الأسرى الفلسطينيين باتت تأبى الاعتقال، فبعد أن صدّقت طويلاً الوعود، أصبح لا خيار لها الآن إلّا إشهار العصيان، والإضراب عن الطعام حتى الحرية.
قبل تحرر الأسير كريم يونس بساعات، كنا معه نودّعه، ونحن ندرك مخزون الوجع الذي تتضمّنه مشهدية تحرر عميد الأسرى الفلسطينيين، ذلك الذي وجدناه قبلنا في السجن، قبل أسرنا، وقبل نضالنا، وقبل تفتح وعينا على ندى جرح فلسطين.
في تلك المشهدية وقفت إلى جانب الأسير جمعة آدم، الذي يُتم عامه الخامس والثلاثين، والمحكوم بمؤبد مغلق وعصي على التحديد وعلى صفقات التبادل، ووقف إلى جانب كريم محمود وناصر أبو سرور، اللذان يدخلان عقدهما الرابع في الأسر، في اليوم ذاته لتحرر كريم، وإلى جانبهم عمار مرضي ووسيم مليطات ومروان البرغوثي ومحمود عيسى ورائد أبو الظاهر وثابت مرداوي وسامح الشوبكي، وكل سادتي وأحبتي المعتقلين في أسر المؤبد الظالم.
في ذلك المشهد أحسست بأني مجرد ضيف وعابر سبيل وسائح في معمدانية الصمود والوجع المترابطين لأسرى فلسطين، ولم تهوّن عليّ حقيقة الأعوام السبعة عشر التي أمضيتها، ولا تلك المتبقية لي في الأسر، لكن ما لفتنا جميعاً في ذلك المشهد كان وقوف كريم بيننا معتذراً إلينا عن حريته القريبة، وعن نجاة ذاته الفردية من المركب المتأرجح في محيطات التيه التي تكاد تقتلع مشروع التحرر الفلسطيني برمته.
يعتذر كريم إلينا عن خلاصه الصعب بعد الإعدام الملغى، والمؤبد المحدد، وعشرات محطات الخيبات ونكث الوعود التي وضعته فيها زعامات فلسطين المتعاقبة. كان مشهداً (بانورامياً) فيه من عناد الشمس إذا قررت يوماً أن تشرق رغماً عن كل ظلامات الأفق، وفيه انسداد الآفاق المطلق لأولئك الذين شهدوا حرية من قبلهم ومن بعدهم وهم معلقون بأحبال أعمارهم المتدلية من مشنقة مؤبدهم المشاكس.
يعتذر كريم لأن لا زعامة فلسطينية أو عربية تمتلك جرأة الاعتذار إلى رواد مشروع التحرر، وأمراء الكرامة والفداء، والذين آمنوا بالمقاومة والتمرد على قهر الاحتلال الصهيوني كخيار وحيد للبقاء حراً وعربياً وإنساناً في زمان الخيبة والهزيمة العربيتين المهينتين.
يعتذر كريم لأن لا قيادات مسؤولة تكتفي بمجرد المشاهدة والتصفيق لمشهد نجاة فرد من مركب ممتلئ وممعن في الغرق.
يعتذر كريم لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن جوهره النبيل وصدق إيمانه الفطري بقيم التضحية الجمعية والانتماء والالتزام الصارم بمشروع التحرر الوطني الفلسطيني.
يعتذر كريم لأنه لا يستطيع أن يقول كل الحقيقة لناصر ومحمود وجمعة ومروان وثابت وفالح وكل أسرى المؤبدات المحيطين به، والمبتهجين بنجاته. والحقيقة، التي يخبرنا بها واقع مشروعنا الوطني، مفادها أن الموت صار فرصة التحرر الوحيدة من سجون الأجساد، أمّا الأرواح فهي حرة محلقة كطائر الصدى تلاحق السجان والقاتل والمتخاذل وتجار الوعود الخاوية، وتطالب بحقها المصيري في ارتفاع الفضاء وألوان الأفق!
أرواح الأسرى الفلسطينيين باتت تأبى الاعتقال، فبعد أن صدّقت طويلاً الوعود، قليل صدقها وكثير كذبها، ولا خيار لهم الآن إلا إشهار العصيان، والإضراب عن الطعام حتى الحرية، وهذا ما يعدّه الأسرى، وهذا ما سيكون قريباً، إذا ما استفزت الحركة الأسيرة حماقاتُ النازيين الجدد من حكام "تل أبيب".
فاستعدّوا يا أهل فلسطين ويا أنصار فلسطين لشروط الواجب، أو لعذابات الضمائر وسياط الأسئلة الصعبة!