متلازمة الوجع الفلسطيني
لم يُضرب الشهيد خضر عدنان احتجاجاً على اعتقاله الإداري، ولا لتحسين شروط الحياة في الأسر، إنما أضرب ضد الاحتلال المتربص بأعمار الفلسطينيين وحياتهم.
حين قادته دروبه إلى الاشتباك غير المتكافئ، لم يكن عز الدين القسام قد استجمع من أسباب القوة ما يمكّنه من النصر في المعركة، فاستشهد ملاحقاً وطريداً في أحراج يعبد مع ثلة من الشهداء المتروكين من غير ظهير ولا نصير.
قبيل عودة عبد القادر الحسيني من اجتماعه مع القادة العرب في دمشق، كتب في مذكرات الجامعة العربية وصيته الأخيرة، معلناً عودته إلى فلسطين للموت فيها بعدما فشلت الجهود الحثيثة في إقناع العرب بدعمه بالسلاح اللازم للدفاع عنها. قتل الحسيني في القسطل مساء، فاستيقظ أهل فلسطين في الصباح على وجع خسارته، وكانت أصوات صياح الناجين من مجزرة دير ياسين تنذر البقية بأن الموت الأسود آتٍ.
في كلتا الحالتين، كان الضمير الجمعي الفلسطيني مصاباً ونازفاً بالوجع؛ بوجع الخسارة، ووجع الندم على ترك القادة يقتلون بظروف غير متكافئة. وعلى بعد ثلاثة أرباع القرن من النكبة الكبرى، صحونا على متلازمة وجع مماثلة. فجر الثلاثاء 2 أيار/مايو، أتانا خبر مقتل الشيخ الشهيد خضر عدنان مضرباً وصائماً لأكثر من 86 يوماً متواصلاً، فضاع في زنزانته المظلمة والباردة والبعيدة في مقصلة سجن الرملة الصهيوني.
لم يُضرب الشهيد خضر عدنان احتجاجاً على اعتقاله الإداري، ولا لتحسين شروط الحياة في الأسر، إنما أضرب ضد الاحتلال المتربص بأعمار الفلسطينيين وحياتهم. أضرب لأنه يرفض أن يقتسم مع ضباط "الشاباك" حياته ورزقه وأسباب بقائه. أضرب واثقاً بنصر الله وتأييده، فقد اعتاد النصر بالعودة من أخطار الموت في كل مرة أضرب فيها عن الطعام. أضرب مؤمناً بأن "إسرائيل" أضعف وأجبن من أن تقتله. أضرب لأنه أدرك دوره الرسالي والطليعي، إذ اعتاد أن يتقدم الصفوف ليلحق به الركب، ولو بعد حين.
مات الشيخ خضر عدنان: تلك الجملة فجعتنا بالحدث، وبها أدركنا أن الانتصار في فلسطين وجوهه عديدة، منها الموت صبراً وقتلاً بالجوع والتجاهل والإهمال. أدركنا أن نصرة الشيخ تأخرت، وأننا منذ اليوم سنكون شهوداً على أول فلسطيني يقتل بالإضراب عن الطعام، "لا بتداعياته ولا بمحاولات كسره".
أدركنا بمقتل الشيخ أن الإضراب أداة مقاومة سلمية جداً للعدو، لكنها قد تكون عنيفة حتى القتل لأصحاب الحق المظلومين والمضطرين إلى استخدامها. أدركنا منذ تلك اللحظة أننا أمام جرعة كبيرة غير محتملة من الوجع؛ فقد أوجعنا مقتل الشيخ الحبيب والقريب، الذي دخل كل بيت من بيوت الأسرى وعائلاتهم، وأوجعنا أكثر وخز الضمير وسياط العدل التي تكوي أرواحنا، وأوجعنا قيدنا الذي جعل منا شهوداً مغتصَبين على فداحة الخسارة ومأساوية "المشهد الأخير".
في فلسطين، تقع أحياناً أحداث بوزن تاريخي لا يزيدها الزمن إلا عمقاً واحتداماً، وتبقى حروف جراحاتها طرية نابضة بالذكرى والوجع؛ فمنذ قتل القسام طريداً، والحسيني وحيداً، وخضر عدنان مضرباً وبعيداً، وفلسطين تتقلب في متلازمة أوجاع الخسارات والنكران.
وعلى الرغم من وقوف مقاوميها وصمودهم الكبير والعظيم، وآخر تجلياته في منازلة "ثأر الأحرار"، فإن عبرة تلك الأحداث تستدعي الوقوف بمنعها أولاً، ومنعها لا يكون إلا بمزيد من الاستعداد، ومزيد من المقاومة؛ مقاومة مبادرة ومهاجمة وضارية وضاربة لقتل الشر المسمى "إسرائيل".