العلاقات الروسية-الصينية في الجغرافيا السياسية
التجارب التاريخية تدل أنَّ الدول المجاورة والتي تجمعها حدود مشتركة لن تكون علاقاتها على ما يرام في معظم الحالات، خصوصاً إذا كانت هذه الدول قوية عسكرياً وتطمح إلى أن تصبح قوى إقليمية أو دولية (superpower).
إنَّ الأمثلة كثيرة، فالصراع بين باكستان والهند هو صراع للدفاع عن الحدود أو استخدام القوة من أجل إضافة المزيد من الأراضي إلى الدولة، ففي هذا الصراع كانت نقطة الاشتباك هي إقليم كشمير، والصراع العربي الاسرائيلي هو مثالٌ ثانٍ، فالعرب يطالبون إسرائيل بالتراجع أما إسرائيل فتخاطب المجتمع الدولي أنَّ الخطر قادم من جهة العرب وهم يشكلون تهديداً لأمنها القومي، وهي تحاول إقناع العالم بأنَّ أراضيها تابعة للدولة الاسرائيلية وليست أراضٍ عربية، مثالٌ ثالث هو القضية الكردية، إنَّ الأكراد يتمركزون ما بين قوتين إقليميتين (إيران وتركيا) ودول أخرى غالبيتها ليست بالكردية، فكل الإدعاءات ستكون باطلة أمام قوة السلاح والحكومات.
إنَّ العلاقات بين الدول لم تكن يوماً سلمية ولن تكون في المستقبل، فإذا كان ظاهرها جميل وقائم على التعاون والمشاركة فهذا لا يعني حقيقة النوايا، فالمنطق يقول أنَّ الدولة تسعى وراء مصلحتها الشخصية ومصلحة شعبها وأراضيها، أما كل الدول الأخرى حتى تلك التي تجمعها بها حدود مشتركة لن تكون أولوية على أجندة عملها، فهذه الدول لديها حكومات وشعوبها متمايزة ومصالحها تختلف، فما يجمع بينها هو المصلحة المشتركة، ولن تكون العلاقات بين دولة وأخرى مميزة إلا إذا وجدت المصلحة الاقتصادية أو الأمنية أو أي نوع من المصالح الأخرى.
إنَّ التنين الصيني الصاعد تربطه علاقات متأرجحة تاريخياً مع الدب الروسي وحالياً العلاقة تبدو جيدة ولكن في عمقها فهي قائمة على مصالح اقتصادية وأمنية، فالحلف الصيني الروسي هو وليد العداء المشترك للولايات المتحدة الأميركية بشكل عام. فروسيا هي وريثة الاتحاد السوفياتي وتمتلك أحد أهم جيوش العالم بالاضافة إلى امتلاكلها حق النقض (VETO) أما الصين فهي صاحبة أقوى اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأميركي بالاضافة إلى جيشها القوي وامتلاكها حق النقض (VETO) أيضاً؛ إنَّ روسيا وإلى حدٍ بعيد لا تزال تتزعم المعسكر الشرقي بالرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي وقد ظهر هذا الأمر بشكل واضح أثناء الأزمة السورية والقرار الصلب الذي اتخذته القيادة الروسية في الوقوف إلى جانب النظام السوري عسكرياً وسياسياً، أما الولايات المتحدة فلا تزال الدولة الأقوى عالمياً وتتزعم المعسكر الغربي أو تقوم بالتأثير المباشر أو غير المباشر على قراراته السياسية والعسكرية والاقتصادية، فعند قيام الولايات المتحدة الأميركية بحمالاتها تقوم باستدعاء حلفائها الغربيين لمساندتها وعلى رأسهم بريطانيا، والصراع في أوكرانيا هو خير دليل على ما تخفيه الصدور الأميركية والسعي المتواصل للتأثير سلباً على روسيا ومحاولة إضعافها، وقد قال مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبغنيو بريجينسكي "إذا سقطت أوكرانيا من يد روسيا، فعلى روسيا أن تنسى أنها دولة عظمى"، إلا أنَّ روسيا أثبتت أنها لا تزال قوة عظمى ووازنة على الساحة الدولية وقد أسفرت الحملة الدولية في أوكرانيا عن إعادة روسيا لضم شبه جزيرة القرم. أما في ما يخص الصين فالولايات المتحدة تسعى دائماً إلى فتح ملفات حسّاسة وتسليط الضوء عليها، مثل قضية تايوان وهونغ كونغ، وبحر الصين الجنوبي، وآخر ما قامت به إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان فتح حرب تجارية ضد الصين.
تعود العلاقات الروسية الصينية إلى العام 1640 حيث أقيمت العلاقات الدبلوماسية والتجارية، ولكن هذه العلاقة لم تكن بالمثالية بسبب الخلافات على الحدود، ففي العام 1858 ضمّت روسيا نهر أمور إلى منطقتها الجغرافية وهذا النهر هو الذي يرسم الحدود بين روسيا والصين، ومنذ تلك الفترة والتوتر دائم بين الدولتين. إنَّ النظام الشيوعي في روسيا كما في الصين كان قائماً على مبادئ موحدّة وهي العدالة الاجتماعية والقضاء على الطبقية، وقد كان للاتحاد السوفياتي دوراً عظيماً في دعم الشعوب الآسيوية التي تنتهج النظام الشيوعي وتلقّت الصين الكثير من المعونات التنموية، ولكن هذه العلاقة قد اتخذت منحاً سلبياً في مطلع الستينات عندما قرّر خروتشوف قطع المساعدات السوفياتية عن الصين، هذا القرار كان كفيلاً بإدخال البلاد في حالة من التراجع الاقتصادي والبطالة والفقر.
يعتبر الكثير من المحللين السياسيين الصينيين أنَّ الصين كانت تمثل المبادئ الشيوعية الصحيحة وقد عملت على المحافظة عليها بعد رحيل لينين، ولكن التباعد السوفياتي الصيني والمشاكل الحدودية والعقائدية والسياسية التي بدأت بالتكاثر كانت كفيلة بإضعاف الاتحاد السوفياتي إلى حين انهياره وبجعل الصين دولة ضعيفة ومشرذمة آنذاك. مما لا شكَّ فيه أنَّ شكل العالم اليوم سيكون مختلفاً والنظام الدولي الذي وضع الغرب أسسه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ما كان ليكون "لو توحّد الدب الروسي مع التنين الصيني". ولكن سرعان ما استدرك الروس الأمر وأقرّوا بأنَّ التخلي عن الصين كانت غلطة تاريخية، فبعد انهيار الاتحياد السوفياتي كانت الصين هي الشريك الاقتصادي والسياسي الحقيقي لروسيا المنهكة، وقد عملت الصين على زيادة التعاون الاقتصادي مع روسيا. مع بداية التسعينات كانت روسيا منهارة اقتصادياً أما الصين فكانت تعمل على سياسة النمو الاقتصادي، وقد استغلت الصين تلك الفرصة وبدأت بالشراكة الاقتصادية والعسكرية مع روسيا، من جهتها وافقت روسيا على تلك الشراكة بسبب حاجتها لإعادة تقوية الاقتصاد وقد وجدت في الصين الشريك المستقبلي المحتمل، أما الصين فلم تنسى المساعدات التي كانت تتلقاها من الاتحاد السوفياتي وتعتبر خطوة إعادة الانفتاح على روسيا رسالة لطي صفحة الماضي والسير على طريق مشترك، طريق الجوار والمصير المشترك ومواجهة الغرب.
في التاريخ الحديث، أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين الصين والاتحاد السوفياتي في العام 1949 وقد كان الاتحاد السوفياتي أول من اعترف بجمهورية الصين الشعبية، وفي العام 1969 حصلت اشتباكات عسكرية بين الاتحاد السوفياتي والصين وقد دامت لمدة سبعة أشهر ولم تنتهي هذه الخلافات إلا عام 1991 خلال اتفاقية الحدود بين الاتحاد السوفياتي والصين. أضف إلى ذلك، القوة السوفياتية الهائلة والمطامع المتزايدة دفعت بالصين إلى الانتقال من جهة الحليف للاتحاد السوفياتي الى جهة الخصم الشرس له وحليف الولايات المتحدة الاميركية.
إنَّ العقيدة الشيوعية لم تكن رادعاً للخلاف بين الاتحاد السوفياتي والصين، لأنَّ الصين شعرت بأن الاتحاد السوفياتي بدأ يشكل تهديداً لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية فاختارت التحالف مع العدو (الولايات المتحدة الأميركية) لإضعاف الجار السوفياتي. إنَّ الولايات المتحدة الليبرالية والديموقراطية قد رحّبت بالصديق الشيوعي الجديد (الصين) لأنها كانت بحاجة إلى موطئ قدم قرب الاتحاد السوفياتي. وهكذا حصّنت الصين حدودها من الخطر السوفياتي وأصبحت الولايات المتحدة على الحدود مباشرة مع الاتحاد السوفياتي.
ما بين الأمس واليوم الكثير من الأحداث والمتغيرات، فالصين اليوم هي في طريقها إلى أن تصبح قوة عظمة وذلك بفضل سياسة الانفتاح التي اتبعها القائد الصيني دينغ شياو بينغ وأيضاً النظام الاشتراكي القائم ولكن بالخصائص الصينية والذي يختلف عن النظامين الاشتراكي والليبرالي. إنَّ الصين اليوم تخصص نسبة كبيرة من ميزانيتها للإنفاق على التسلح، أما الدخل الفردي الصيني فقد تعدى الدخل الفردي الروسي بأشواط والصين اليوم أصبحت عابرة للحدود عن طريق التوسع الاقتصادي، خصوصاً مبادرة الحزام والطريق. وبعبارة أخرى، إنَّ الاتحاد السوفياتي قد انهار أما الصين فهي في توسع دائم، والاقتصاد الروسي ضعيف جداً مقارنةً بالاقتصاد الصيني، أما الترسانة العسكرية الروسية فهي ممتازة.
إن الصين وروسيا هما قوتان عظمتان وذلك باستحواذهما على حق النقض الفيتو والامكانيات الجيوبوليتيكية والعسكرية والبشرية الهائلة التي تميّز البلدين، أما استراتيجياً فيمكن القول بأنَّ روسيا هي بمثابة الجناح العسكري للحلف الشرقي والصين هي الجناح الاقتصادي، بالرغم من أنَّ الصين تمتلك واحداً من أهم وأقوى الجيوش في العالم وتعمل دائماً على تطوير قوتها العسكرية وذلك بالتوازي مع النمو الاقتصادي الهائل الذي تحققه. وقد تقبّلت روسيا الدخول الصيني إلى آسيا الوسطى على مضض، لأنَّ الصين لم تستعمل القوة العسكرية عبر توسعها ولأنَّ هذه المنطقة هي بحاجة إلى المشاريع الاقتصادية والتنموية، ففي بعض الدول أصبح اليوان الصيني عملة أولية بعد أن كان الروبل الروسي هو العملة المتعارف عليها.
وهنا يجب التوقف عند مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في العام 2013، تعمل هذه المبادرة على جعل الصين المضخة الاقتصادية والمركز التجاري الدولي عن طريق الشبكات والطرق البرية والبحرية، التي تربط الصين بالعالم. إنَّ هذه المبادرة ما كانت لتصبح حقيقة على أرض الواقع لولا الموافقة الروسية على التوسع الصيني، خصوصاً استخدام الصين للطرقات في منطقة آسيا الوسطى والجسر الأوراسي الجديد، بمعنى آخر، هذا هو اعتراف روسي بأنَّ الصين أصبحت قوة عظمى لا يمكن إيقافها وأنَّ روسيا تفضل الجار الصيني القوي على العدو التاريخي الأميركي. إن الصينَّ وضعت روسيا في أولى اهتماماتها وذلك بسبب الحدود الجغرافية المشتركة ولأنه مهما تعاظمت القوة الصينية سوف تظل بحاجة إلى حليف قوي ودائم مثل روسيا، خصوصاً مع اشتداد الضغط الدولي ضد الصين اليوم مع الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الاميركي دونالد ترامب والحملات الممنهجة ضد الصين في ما خص قضية الإيغور ومنطقة بحر الصين الجنوبي، فالحلف الصيني الروسي هو واجب وأمر حتمي في سبيل النهضة الصينية.
إنَّ الرئيس الصيني شي جين بينغ وفي كل فترة يؤكد على متانة العلاقات التي تجمع الصين بروسيا، ويعتبر الرئيس الصيني أنه يجب تعميق هذا التعاون المشترك فى مجالات الطاقة والابتكار وتسريع وتيرة الربط بين مبادرة الحزام والطريق والاتحاد الاقتصادي الأوراسي وتكثيف التواصل والتنسيق فى الشؤون الدولية. إنَّ الفكرة التي اقترحها وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، ببناء ممر اقتصادي صيني-منغولي- روسي، يعبر القارة الأوراسية كلها، هو دليل على انَّ الصين تسعى إلى تعزيز نفوذها سياسياً واقتصادياً بدعم وتغطية روسية.
لو لم تكن روسيا بحاجة إلى الصين لما كان هذا الحلف الاستراتيجي، وقد ظهر الحلف الروسي الصيني خلال الأزمة السورية وفي تأسيس حلف البريكس ومؤخراً في انضمام روسيا المؤثر والفعّال إلى مبادرة الحزام والطريق. فالصين بحاجة إلى الموارد الطبيعية الروسية من أجل الاستمرار والتقدم وإلى أن يكون لديها حليف قوي كروسيا، ومن جهته اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنَّ روسيا مهتمة جداً بالتصور الصيني وتأمل أن يكون ممكناً إيجاد نموذج للتعاون نحو إطلاق المشاريع المشتركة بين روسيا والصين في الطريق العابر لسيبيريا وطريق بايكال-آمور.
إنَّ روسيا تشكل رافعة ومصدر تطور لمبادرة الحزام والطريق، والعداء التاريخي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي هو الدافع المباشر لوقوف روسيا إلى جانب الصين وعامل إيجابي للتطور والازدهار الصيني، فالصين اليوم هي شريك استراتيجي لروسيا بعد أن كانت روسيا هي القطب العالمي، ولكن الصين أيضاً بتحالفها مع روسيا تقوم بتدعيم جبهتها الشمالية وتخاطب الولايات المتحدة والعالم من قواعد صلبة وقوية.
* باحث دكتوراه في العلاقات الدولية، ومهتم في السياسة الصينية الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط. لديه العديد من المنشورات السياسية والاجتماعية.