غزة.. البوابات الثقيلة
كانت الاستراتيجية الإسرائيليّة تقضي بتحويل قطاع غزة إلى غيتو، على أمل إلقاء سكانه في غياهب نسيان أبدي.
"كيف أغمضنا عيوننا عن التبصّر في مصيرنا ورؤية قدَر جيلنا بمنتهى فظاعته؟ هل نسينا أنّ مجموعة الشبان هذه التي تجلس في ناحال عوز تحمل على كاهلها بوابات غزة الثقيلة؟".
كانت تلك كلمات رئيس أركان "جيش" الاحتلال موشي دايان في العام 1956، خلال رثائه مستوطناً قُتل على حدود غزة في عملية فدائيّة. لم تزد كلمات خطاب دايان في الأصل العبري على 250 كلمة، لكن هذا الخطاب القصير والمكثف عُدّ واحداً من أمّهات الخطابات الصهيونيّة المؤسِّسة، ليس في الثقافة العسكرية فحسب، بل في الثقافة الاجتماعية الإسرائيلية أيضاً.
مفردات الخطاب كثيرة، وكذلك شيفراته التي يعدّدها عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ في كتابه "العسكرة في المجتمع الإسرائيلي"، لكن ما يهمّنا هنا هو حديث دايان عن غزة وما مثّلته منذ احتلالها الأول في العقلية الإسرائيلية.
غزّة في التّفكير الإسرائيليّ
احتلّت "إسرائيل" قطاع غزّة للمرة الأولى إبان العدوان الثلاثي في العام 1956، وجاء الانسحاب الإسرائيلي الأول منه بعد ذلك بعام، تحت إشراف قوات الطوارئ التي شكَّلتها الأمم المتحدة، ثم عادت "إسرائيل" إلى احتلاله للمرة الثانية خلال عدوان العام 1967.
بحثت "إسرائيل" عن طريقة للاحتفاظ بالأراضي التي احتلّتها في تلك السنة، مفرّقةً بين المناطق التي تريد السيطرة المباشرة عليها، وتلك التي تديرها بشكل غير مباشر، بهدف تقليص عدد الفلسطينيين إلى الحد الأدنى على المدى الطويل.
هكذا تم تقسيم الضفة الغربية وتجزئتها، لكنَّ قطاع غزة لم يتلاءم بسهولة مع هذه الاستراتيجية. كانت الاستراتيجية الإسرائيليّة تقضي بتحويله إلى غيتو، على أمل إلقاء سكانه في غياهب نسيان أبدي، أو كما تمنّى يوماً رئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين، بأن يصحو من نومه ذات صباح "ليجد أن القطاع غرق في البحر".
لكنَّ هذا الغيتو تمرّد طيلة عقود طويلة، من عمليات الفدائيين في السبعينيات والثمانينيات، إلى عمليات المقاومة مطلع العام 1990، فضلاً عن الانتفاضتين الأولى والثانية، وحتى بعد الانسحاب الإسرائيلي الثاني من القطاع في العام 2005.
لم تدع غزة الاحتلالَ ينعم ويستقرّ بما يحتلَّه من أراضٍ فلسطينية أخرى. لذا، كانت هدفاً مستمراً للاعتداءات الإسرائيلية. تعكس العمليات العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت القطاع، وخصوصاً تلك التي حملت أسماء محدّدة، التطورات على الأرض بوضوح، وكذلك التغيرات في العقلية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
الانتفاضة الثانية
خلال الأعوام الأولى من الانتفاضة الثّانية، تركّزت معظم العمليات العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية. تم استهداف غزة بشكل ثانوي في 5 عمليات من العمليات الإحدى عشرة التي شُنَّت خلال تلك الفترة (عملية "البرونز" 2001، خطّة "موفاز" 2001، العملية الثانية ضد قوات الأمن الفلسطينية 2001، الرد المندفع على "حماس" 2002، عمليّة "الرحلة الملوّنة" 2002).
بحلول أيلول/سبتمبر 2003، كان الركود قد أصاب مساعي التّسوية، إضافةً إلى أنَّ الاحتلال الأميركي للعراق غيّر الديناميات الإقليمية. عادت "إسرائيل" لممارسة الضغط العسكريّ على الفلسطينيين، وأصبحت غزة وتقويض مكانة حركة "حماس" فيها هما نقطة التركيز الإسرائيلية الجديدة.
في 6 أيلول/سبتمبر 2003، افتتحت عملية "ناقل الحركة الآلي" هذه المرحلة. كانت عملية مركّزة استهدفت مبنى يجتمع فيه بعض قادة "حماس"، وبينهم قائدها الروحي الشيخ أحمد ياسين.
تهيئة الأرضية لـ"فكّ الارتباط"
اعتباراً من خريف العام 2003، بدأ رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون يناقش علناً رسم حدود دائمة لـ"إسرائيل" من جانب واحد. وبحلول شباط/فبراير 2004، قدَّم شارون رسمياً فكرة الانسحاب الأحادي الجانب من غزة للإدارة الأميركية، وذلك كجزء من خطّة "فك الارتباط" التي تتضمّن أيضاً إخلاء عدة مستوطنات في الضفة الغربية. بدءاً من تشرين الأول/أكتوبر 2003 وحتى كانون الثاني/يناير 2005، شكّلت 11 عملية عسكرية إسرائيلية الأساس لخطّة "فكّ الارتباط".
كانت العمليات الأربع الأولى ("مجرى العصب"، و"القصة المستمرة" التي اغتيل فيها الشيخ أحمد ياسين، و"قوس قزح" التي اغتيل فيها القيادي في "حماس" عبد العزيز الرنتيسي، و"الدرع الفعالة") تتضمَّن اغتيال قادة فصائل المقاومة، إضافةً إلى جرف المناطق السكنية، من أجل إقامة مناطق عازلة على طول الحدود الشمالية والجنوبية لغزة.
أمّا بالنّسبة إلى باقي العمليات (عملية من دون اسم لتوسيع المنطقة العازلة، "أيام الندم"، "البلاط الملكي"، "الحديد البرتقالي"، "الحديد البنفسجي"، "رياح الخريف"، "الخطوة الشرقية")، فإنَّ التركيز فيها تحوّل إلى اجتثاث البنى التحتية للمقاومة ومنع إطلاق الصواريخ من قطاع غزة.
عقب عمليَّة "الخطوة الشرقية" في مطلع العام 2005، مرّت 9 أشهر من دون حدوث عمليات عسكرية إسرائيلية بمعناها الواسع، على الرغم من استمرار الغارات والاغتيالات وإطلاق النار عبر الحدود، إلى أن أُنجزت خطّة "فك الارتباط" في 20 أيلول/سبتمبر 2005.
إرساء قواعد اللعبة الجديدة
مباشرةً بعد انسحابها من غزة، صعّدت "إسرائيل" عمليات الاغتيال في الضفة الغربية. ورداً على اغتيال عناصر من حركة "الجهاد الإسلامي" في 23 أيلول/سبتمبر 2005، أطلقت الفصائل في قطاع غزة الصّواريخ وقذائف الهاون. بدأت "إسرائيل" خلال تلك المرحلة بشنِّ اعتداءات متفرقة على القطاع. وفي هذا الإطار، جاءت عمليتان عسكريتان حملتا اسمين لا يخلوان من مغزى، هما "الأمطار الأولى" و"عود على بدء"، وهدفتا بشكل رئيسي إلى تحقيق 3 أهداف.
الهدف الأوّل كان إرساء قواعد اللعبة الجديدة في غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي، والثاني هو تشجيع السّلطة الفلسطينية (كان محمود عباس قد انتخب رئيساً لها في 10 كانون الثاني/يناير 2005) على الاستفادة من الواقع الجديد. أما الثالث، فهو وضع حدّ لردود فعل الفلسطينيين في القطاع على الجرائم الإسرائيلية في الضفة الغربية.
عقب عملية "عود على بدء"، جاءت عمليّة أخرى من دون اسم في 5 كانون الأوّل/ديسمبر 2005، واتّسمت باستهدافها الضفة الغربية وقطاع غزّة بشكل متزامن. تبع ذلك عملية "السماوات الزرق"، ثم "السهم الجنوبي"، والتي كانت أوّل عمليّة بريّة منذ "فكّ الارتباط"، ثم عدوان "أمطار الصيف" بعد أسر المقاومة الفلسطينية الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط، ثم "غيوم الخريف"، وعملية أخرى من دون اسم استهدفت شمال القطاع في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2006.
إسقاط "حماس"
في مطلع العام 2006، فازت حركة "حماس" بانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، وكلَّف الرئيس الفلسطيني محمود عباس القياديّ في "حماس" إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة. في إثر ذلك، أوقفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، وبدأت "إسرائيل" تغيّر طريقة تفكيرها تجاه قطاع غزة.
استمرَّ الحصار الإسرائيلي، وكذلك الاعتداءات الروتينيَّة، بما فيها الضربات الجوية والاغتيالات وجرف الأراضي وإطلاق النار من البحر وعبر الحدود، ولكن طيلة 15 شهراً كاملاً، في الفترة الممتدة بين 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2006 و28 شباط/فبراير 2008، لم تحدث أي عملية عسكرية إسرائيلية تحمل اسماً محدداً. كانت مرحلة تغيير في طبيعة التنسيق الإسرائيلي مع الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية، بهدف زعزعة استقرار حكومة "حماس" في غزة، ومرحلة تخطيط إسرائيلي جدّي لعملية اجتياح عسكري كبير على القطاع.
وفي هذا الإطار، جاءت عملية "الشتاء الساخن" في أواخر شباط/فبراير 2008، والتي كانت بمثابة محاكاة عملية لإعادة احتلال غزة، أو كما وصفتها صحيفة "نيويورك تايمز" في 6 آذار/مارس 2008، بالتدريب على كيفية الاستيلاء على منطقة مكتظّة بالسكّان تحت سيطرة "حماس"، ولتقدير مدى ونوع المقاومة التي يمكن أن يواجهها "الجيش" الإسرائيلي إذا ما حاول إعادة احتلال غزة.
هذا ما أقرَّ به يوفال شتاينيتس، عضو الكنيست عن حزب "الليكود"، في ما بعد، حين قال إنّ "إسرائيل كانت قد بدأت تعدّ فعلياً لعملية الرصاص المصبوب خلال تلك الفترة". بالفعل، في كانون الأول/ديسمبر 2008، وبعد أشهر من التخطيط، شُنّت عملية "الرصاص المصبوب" التي استمرَّت شهراً كاملاً، وكانت أكبر اجتياح بري لغزة منذ "فكّ الارتباط". ومع عدم تحقيق العملية أهدافها، تبعتها في العام 2012 عملية "عمود السحاب"، والتي شهدت قصف تل أبيب وجنوب القدس للمرة الأولى، ثم عملية "الجرف الصامد" في العام 2014.
إنَّ تسميات العمليات العسكرية الأربع الماضية، قياساً طبعاً بما سبقها من تسميات، تعكس التغير في العقلية الإسرائيلية والهشاشة الإسرائيلية التي كشفتها غزة يوماً بعد يوم وعدواناً بعد عدوان، من تسميات استعراضيَّة، مثل "أيام الندم" و"السماوات الزرقاء"، إلى تسميات تحاول تأكيد الردع الإسرائيلي المفقود، مثل "الشتاء الساخن" و"الرصاص المصبوب"، ثم تسميات ذات طابع دفاعي لم تكن جزءاً من العقيدة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية من قبل، مثل "الجرف الصامد"، ومؤخّراً "حارس الأسوار".
في كلِّ الأحوال، لم تنجح "إسرائيل" في تطبيق استراتيجياتها التي طبَّقتها في الضفة الغربية على قطاع غزة. ولهذا قامت بتطويقه كغيتو. وعندما قاوم، أصبحت الإبادة الجماعية هي السمة المميّزة للاعتداءات العسكرية الإسرائيلية.
هذه الضراوة والوحشية، بحسب إيلان بابه، المؤرّخ الإسرائيلي والأستاذ في جامعة "أكستر" البريطانية، كانت "نتيجة عجز إسرائيل عن صوغ سياسة واضحة تجاه القطاع. الأمر الوحيد الواضح في تلك السياسة هو القناعة الراسخة بأن القضاء على المقاومة في قطاع غزة من شأنه تحقيق الغيتو فيه".