جنون العظمة الأميركيّ: كيف نتعامل مع صينٍ لا تشبهنا؟

على يد 13 رئيساً أميركياً، تطورت العلاقة الأميركية الصينية من المواجهات المتوترة إلى مزيج معقد من الدبلوماسية المكثفة والتنافس الدولي المتزايد والاقتصادات المتشابكة بشكل كبير.

  • بخلاف نمط
    بخلاف نمط "جنون العظمة" الأميركي تدرك الصين أنَّ العالم تغيّر بشكل كبير

عقب اجتماعات ألاسكا الشهر الماضي، نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن مسؤول أميركي قوله إن الدبلوماسيين الأميركيين يرون خطراً أعمق خلف الحوار الفاتر مع الصينيين الذين، "يبدون واثقين جداً بأن الولايات المتحدة في حالة تدهور، إلى درجة أنهم يتجاوزون الحدود". لم تكن المحادثات نقاشاً بقدر ما كانت صداماً علنياً وتذكيراً صارخاً بأن العالم تغير بشكل دائم.

يثير كلّ ذلك نقاشاً ساخناً هذه الفترة في الولايات المتحدة، حول ما إذا كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة قد تمكَّنت من فهم الصين، بينما يكمن في قلب ذلك سؤال مثير للجدل بشأن جدوى محاولات الولايات المتحدة خلق صين تشبهها.

اعتباراً من العام 1949، حين أعلن ماو تسي تونج قيام جمهورية الصين الشعبية، وعلى يد 13 رئيساً أميركياً مختلفاً، تطورت العلاقة الأميركية الصينية من المواجهات المتوترة إلى مزيج معقد من الدبلوماسية المكثفة والتنافس الدولي المتزايد والاقتصادات المتشابكة بشكل كبير.

 

مواجهة 

مثّلت الحرب الكورية في العام 1950 أولى المواجهات الأميركية الصينية. ومع توقيع اتفاقية الهدنة في العام 1953، رفع الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور الحصار المفروض على تايوان، لتندلع المواجهة الثانية في مضيق تايوان، قبل أن توافق بكين على التفاوض، بعد التهديد الأميركي بشن هجوم نووي على الصين في ربيع العام 1955.

دفعت أزمة مضيق تايوان، إضافةً إلى الدعم الاستخباري الأميركي للتيبت في تمردها على بكين في العام 1959، الصين إلى اتخاذ قرار بتعزيز أسباب القوة، ليشهد العام 1964 انضمام الصين رسمياً إلى النادي النووي، بالتزامن مع الصراع المتصاعد في فيتنام.

سبق ذلك بأربع سنوات تصاعد التوتر بين موسكو وبكين، إذ أدت بعض العوامل، كسياسات التصنيع الصينية المعروفة بـ"القفزة العظيمة"، إلى قيام الاتحاد السوفياتي بسحب مستشاريه في العام 1960. بلغت هذه الخلافات ذروتها في مناوشات حدودية وقعت في آذار/مارس 1969، وقادت إلى انقسام صيني سوفياتي ساهم في التقارب النهائي بين بكين وواشنطن.

 

دبلوماسية الـ"بينغ بونغ"

في السادس من نيسان/أبريل 1971، دعا فريق كرة الطاولة الصيني نظيره الأميركي إلى الصّين، في أوّل علامة علنيّة على تحسن العلاقات بين البلدين. تُوّج هذا التقارب بزيارة سرية قام بها وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر في العام نفسه. بعد ذلك بوقت قصير، اعترفت الأمم المتحدة بجمهورية الصين الشعبية، مانحةً إياها مقعد مجلس الأمن الدائم الذي كانت جمهورية الصين في المنفى تشغله منذ العام 1945.

وعلى الرغم من توقيع البلدين على بيان شنغهاي خلال زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى بكين في العام 1972، فقد استمر تطبيع العلاقات بين البلدين في تقدمه البطيء، لكن ذروة هذه العلاقات تأجلت إلى عهد الرئيس جيمي كارتر.

في العام 1979، منح كارتر الصين اعترافاً دبلوماسياً كاملاً، واعترف بمبدأ الصين الواحدة، قاطعاً العلاقات مع تايوان. أكد خلفه رونالد ريغان هذا النهج حين وقع في العام 1982 على بيان ثالث مع جمهورية الصين الشعبية لتطبيع العلاقات. وفي ذروة المخاوف الأميركية من التوسع السوفياتي، سمحت إدارة ريغان في العام 1984 للصين بشراء معدات عسكرية أميركية للمرة الأولى.

 

المشاركة في سبيل الاحتواء

بعد أيام من توليه المنصب في العام 1989، أعرب الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، الذي كان رئيساً لمكتب الاتصال الأميركي في بكين في منتصف السبعينيات، عن اهتمامه الشخصي العميق بالصين.

لم يكن بوش الأب راغباً في التخلي عن حلمه بالعمل مع الصين. وفي مواجهة رد الفعل العنيف الذي أعقب أحداث ميدان تيانانمين في العام 1989، بدأ بتبرير استمرار التواصل مع الصين على أساس "دعم التحول الديمقراطي والليبرالي"، وهو ما وثّقه التاريخ باعتباره محاولة تشكيل السياسة الصينية لتتماشى مع أهداف الولايات المتحدة.

حافظ بوش الأب على العلاقة مع الصين طوال فترة رئاسته. وعلى نهجه، سار الرئيس بيل كلينتون أيضاً، لكن الأخير كان بحاجة إلى قولبة العلاقة بشكل أفضل، لأن المطلوب لم يعد تشكيل السياسة الصينية فقط، وإنما السيطرة على نمو القوة الصينية على المسرح العالمي أيضاً.

صاغ كلينتون في العام 1993 سياسة "المشاركة البناءة" مع الصين. ومع إطلالة القرن الجديد، طبّع البلدان علاقتهما التجارية رسمياً، من دون أن يؤثر تزعزع العلاقات في ذلك، إثر قصف حلف الناتو السفارة الصينية في بلغراد في العام 1999. وقد مهّد ذلك الطريق أمام الصين للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في العام 2001.

كما هو الحال مع جهود كلينتون، استخدم الرئيس جورج دبليو بوش في البداية نبرة أكثر تشدداً، داعياً إلى إعادة تعريف الصين كـ"قوة منافسة"، لكنه استمر بمحاكاة خطاب سلفه، معتبراً التجارة "أداة رائعة لخلق صين أكثر ليبرالية"، إلا أنَّ أحداث 11 أيلول/سبتمبر جاءت لتقضي على أي فكرة عن الصين كخصم استراتيجي. وبعد شهر من الهجمات، اعتبر بوش الابن الصين أحد "الشركاء المهمين"، مستمراً في شرح سياسة بلاده من بوابة إعادة تشكيل مستقبل الصين.

جاء كل من هؤلاء الرؤساء الثلاثة ليضعوا إطاراً لسياسة الولايات المتحدة تجاه الصين بعبارات متشابهة، مؤكدين أن ذلك سيقود إلى إعادة تشكيل السلوك الصيني، لكن سياسة الاحتواء والتغيير لم تنجح في منع صعود الصين أو السيطرة عليه. على العكس، تفوقت الصين على اليابان في العام 2008، لتصبح أكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة.

 

المنافسة القذرة 

في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالاً حددت فيه وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون رؤية بلادها تجاه آسيا. دعت كلينتون إلى "زيادة الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي والاستراتيجي" كخطوة لمواجهة النفوذ المتزايد للصين. وهكذا، انتقلت الولايات المتحدة من الاحتواء إلى التطويق، أو إلى ما يمكن تسميته "المنافسة القذرة"؛ تلك التي يسعى فيها أحد الأطراف إلى تقويض أداء الآخر بدلاً من التفوّق عليه.

قبل عام فقط من تصريح كلينتون، تفوقت الصين مجدداً على اليابان، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. تصاعدت التوترات التجارية الصينية الأميركية، وارتفع معها العجز التجاري الأميركي مع الصين إلى أعلى مستوى له على الإطلاق.

سعت إدارة الرئيس باراك أوباما، في إطار ما سيُعرف لاحقاً بـ"الاستدارة شرقاً" إلى تقوية تواجدها العسكري المنفرد في شرق آسيا. كما سعت إلى تحجيم قدرة الصين، من خلال التحالفات العسكرية والاتفاقيات الدفاعية، إضافة إلى اتباع دبلوماسية تصادمية في بحر الصين الجنوبي.

استمرت التوترات طيلة فترة رئاسة أوباما صعوداً وهبوطاً، على الرغم من بعض اللقاءات المشتركة وبعض الإعلانات التي تؤكد "التعاون بشكل أكثر فاعلية". ومع اقتراب ولاية أوباما من نهايتها، لم تكن الاستراتيجية الأميركية قد حققت الكثير لمنع الصعود الصيني، فيما كان الشركاء الآسيويون مشككين في مدى التزام الرئيس الأميركي القادم بالاستراتيجية التي بدأها أوباما.

بعد الكثير من إثارة الشكوك، أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العام 2017 احترام سياسة الصين الواحدة. وحدّد وزير خارجيته ريكس تيلرسون خلال زيارة إلى بكين معالم العلاقة الصينية الأميركية: "مبنيّة على عدم المواجهة ولا نزاع فيها، وقائمة على الاحترام المتبادل والبحث دائماً عن حلول مربحة للجانبين".

لم تحترم الولايات المتحدة أياً من المبادئ التي أعلنتها، وأخذت المحاولات الأميركية في عهد ترامب طابعاً أكثر شراسة. كرَّست إدارة الأخير الكثير من الطاقة لتشويه سمعة الصين، فاتهمت بكين بمحاولة تدمير الحرية والديمقراطية والسيطرة على العالم، وادّعت أن مبادرة "الحزام والطريق" الصينية فخ للديون، وأن النمو الاقتصادي للصين هو نتيجة سرقة التقنيات الأميركية والسياسات الاقتصادية غير العادلة.

"الولايات المتحدة ستعطي المنافسة أولوية على التعاون". كان ذلك أوضح تعبير عن سياسة إدارة ترامب تجاه الصين على لسان نائب الرئيس مايك بنس في العام 2018. وقد أتبعه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بخطاب تحت عنوان "الصين الشيوعية ومستقبل العالم الحر"، فيما اختتم مدير الاستخبارات الوطنية جون راتكليف الأسابيع الأخيرة من عمر إدارة ترامب بوصف الصين بأنها "أكبر تهديد لأميركا اليوم".

ختاماً، يبقى السؤال الأكثر محورية: هل هذا هو نوع المنافسة الذي تريد إدارة جو بايدن الانخراط فيه؟

ظاهرياً، يبدو الأمر كذلك. صرّح كبار المسؤولين الأميركيين مؤخراً في جلسات استماع أمام الكونغرس بأن إدارة ترامب كانت محقة في نهجها الصارم تجاه الصين، لكن بخلاف نمط "جنون العظمة" الأميركي، تدرك الصين أنَّ العالم تغيّر بشكل كبير، حالها في ذلك كحال حلفاء أميركا الآسيويين أيضاً، ففي مواجهة صينٍ صاعدة، لا يريد هؤلاء التعويل على حليف بهذه الهشاشة.

خلال أول مؤتمر صحافي له بصفته رئيساً للولايات المتحدة، قال بايدن: "الصين لديها هدف شامل. أنا لا أنتقدها على الهدف، ولكنْ لديها هدف عام يتمثل في أن تصبح الدولة الرائدة في العالم، وأغنى دولة في العالم، وأقوى دولة في العالم. لن يحدث هذا في عهدي، لأن الولايات المتحدة ستستمر في النمو والتوسع".