نضال الصالح لـ"الميادين نت": "سهر الورد" وجها الحرب والحب في حلب

الأديب السوري نضال الصالح يصدر روايته الجديدة "سهر الورد"، مستحضراً التاريخ من خلال شخصية السهروردي وتاريخ حلب وواقعها اليوم. وهنا نص الحوار الذي أجراه مع "الميادين نت".

عن دار "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان، صدر حديثاً للأديب والناقد السوري نضال الصالح رواية "سهر الورد"، وهي روايته الثالثة، بعد "حبس الدم" و"خبر عاجل"،  بالإضافة إلى عشرات الدراسات والقصص والنصوص.

يعود الصالح في روايته الجديدة إلى استحضار التاريخ، من خلال شخصية يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، ودمج هذه الشخصية في واقع حلب ما قبل الحرب، وأثنائها، محاولاً بذلك أن يستعيد التاريخ الذي ينهض من جديدٍ، ليُثبت أنَّ حلب عصيّةٌ على الدمار والخراب، بالرغم من كل المحن التي مرت وتمر بها.

يستعرض الكاتب واقع حلب وتاريخها وآثارها ورجالاتها، حتى لكأنَّ القارئ يتخيّل المكان، بل يصبح جزءاً منه. جرى ذلك كلّه من خلال كسر آلية السرد، وتوزيعها على ثلاثة محاور متداخلة: "كأن الريح"، "سهر ورد"، و"إشراقات شعرية للشيخ شهاب الدين"، ومن خلال قصصِ حبٍّ حاول الكاتب أن ينتصر بها على الحرب.

تنبني الرواية على قصة حب بين يحيى المسلم، وريث يحيى السهروردي، وورد المسيحية، وكأنَّ نضال الصالح بذلك ينتصر لإنسانية الإنسان، رداً على الطائفية البغيضة التي كادت تذبح حلب من الوريد إلى الوريد.

بمناسبة صدور هذه الرواية كان لنا هذا الحوار مع الروائي نضال الصالح.

***

كنتَ شاهداً على دمار حلب، وحربها، لكنَّ الحرب ظلّت خلفيةً للأحداث في روايتك، وآثرتَ أن تستعرض تفاصيلها من خلال قصص الحب التي تحفل بها الرواية، هل كنت تقاوم الحرب بالحب؟

أجل، كنتُ شاهداً على دمار حلب منذ جمرته الأولى، ساعته الأولى، وأعني التظاهرات التي كان بعض من أحياء المدينة يشهدها بين وقتٍ وآخر، لا سيما أيام الجمعة، ثم دخول المسلحين إليها من الريف الغربي، ثم قضم هؤلاء المدينة القديمة في ساعات قليلة.

سعيتُ في الرواية إلى تقديم ما يشبه الوثيقة التاريخية عما كان يحدث، من دون أن تكون الوثيقة ملصقاً في المتن الروائي، بل متماهيةً معه، ومكوناً مركزياً في حركته وسيرورته، وأستطيع أن أؤكّد أنَّ مجمل ما جاء في الرواية فيما يعني ذلك هو الحقيقة بمطلق صدقها، لأنَّني كنتُ شاهداً على كلِّ تفصيلٍ فيها.

أما أنَّ الحرب كانت خلفيةً للأحداث، فهذا صحيح ودقيق، فكما كنت مؤرقاً بكتابة نصٍّ روائيٍّ يوثّق للحرب، كنتُ في آنٍ واحدٍ أطمح إلى كتابة نصٍّ يمجّد الحبَّ، وذلك من خلال شخصيتين رئيستين: المسلم الدكتور يحيى، والمسيحية الدكتورة ورد، اللذان يلتقيان في مركز للأبحاث، وسرعان ما تعصف بقلبيهما عاطفة باذخة لا تلقي بالاً إلا لخفق القلب، مهما يكن من أمر الاختلاف الديني بينهما، وتوحِّدهما شخصية الشاعر القتيل، الشيخ شهاب الدين السهروردي، صاحب فلسفة حكمة الإشراق، بوصفه رمزاً للعلم في مواجهة الجهل، والوعي في مواجهة التخلف، والجمال في مواجهة القبح، والحب في مواجهة الدمار.

الحرب والحب وجهان لإرادةٍ واحدةٍ كانت تشغلني قبل الكتابة وخلالها، هي أنَّ حلب عصيّةٌ على الموت، كما كانت عبر تاريخها الطويل، كما هي عصيّةٌ على الجهل بمختلف صوره وتجلياته، وكان الحامل التخييلي لذلك هو تلك العاطفة التي جمعت بين يحيى وورد، ولعلّي تمكّنت من إنجاز ذلك كما يليق بحلب، وكما يليق بعصف القلب في آنٍ واحدٍ.

ما الذي يفعله الماضي، أي ماضي حلب داخل حاضرها؟ وكيف أصبح حقيقة في "سهر الورد" لا تقبل الجدل؟

هو ذا تماماً ما كنتُ أبحث عن رافعة، بل روافع فنية له، داخل المحكي الروائي، وما كنتُ أطمح إلى تحقيقه على نحوٍ يخلّص السرد من حكائيته المطلقة، ويرفعه إلى مرتبة المغامرة الجمالية التي يتداخل التاريخ فيها مع الحكاية، والثانية مع السيرة الغيرية (سيرة السهروردي)، وهذه مع الشعر، كما المقبوسات المثبتة من شعر السهروردي.

ومن أجل كتابةٍ روائيةٍ تنتسب إليَّ، وتتطهّر من لوثة إعادة كتابة المتواتر والمستقر على مستوى البناء السردي، مضيتُ إلى مدونات التاريخ عن حلب، وأثبتُّ بعضاً منها داخل الرواية، لأقدّم للقارئ وجبةً معرفيةً فيما يعني هذا التاريخ من جهةٍ، ولأكسر نمطية السرد ورتابته من جهةٍ أخرى، ثم لأقاوم الراهن الذي يُعيد إنتاج بعض وقائع التاريخ من جهةٍ ثالثةٍ.

التاريخ في الرواية هو الراهن كما هو ماضٍ، لكأنَّ ثمة لعنةً تطارد حلب مذ كانت، لعنة أن تكون مطمعاً للغزاة والهمج طوال تاريخها، وأن تدفع أثماناً باهظةً لكونها حاضرةً، أثبتت الحفريات والدراسات أنّها أقدم مدينةٍ مأهولةٍ في التاريخ، وهذا ما تجلّى واقعاً داخل المتن الروائي، عبر مجموعةٍ من الوقائع والأحداث والشخصيات، التي يتماهى الماضي فيها والحاضر، ويمتزجان بوصفهما تاريخاً كما هما راهنٌ، يغصُّ بتخمةٍ فادحةٍ من القتلة، قتلة المعرفة والضوء والحضارة والجمال.

هل كان الواقع دليلاً على الخراب، ولم يكن ثمة من يريد أن يرى ذلك؟ كنتَ شجاعاً في طرحك: مركز الأبحاث الخاوي، والحسد، والضغينة، والفساد، والمحسوبية، هل كانت كلها مقدمات للخراب؟

لم يكن ليحدث ما حدث في سوريا لولا ما يضطرب في قلب الواقع من جمرٍ على غير مستوى. أما أنَّ ثمة من لم يكن يريد رؤية ذلك، فلا أستطيع تقدير الرؤية من عدمها. ما أستطيعه وأعرفه أنَّ ما سبق الحرب كان مقدّمةً لها، بهذه الدرجة أو تلك، على الرغم من يقيني، كما أثبتت الوقائع، أن ثمة إرادات خارجية كانت تنفخ في الرماد، بل تشعله، بل توقظ الجمر من سباته، وتستثمره. وبذلك تضافر عاملان، داخلي وخارجي، فكان ما كان من الحديث المرجم للحرب.

أما أنني كنتُ شجاعاً في الكشف عن ذلك الخراب، ولا سيما ما يعني الحقل الأكاديمي، فإنني لا أدّعي ذلك بقدر ما أؤكّد انحيازي إلى الواقع، بمجمل ما فيه من اختلاطات، كتلك التي ذُكِرت والأخرى التي لم تُذكر: من مركز الأبحاث بكامل نسبته إلى الخواء، إلى التحاسد، فالفساد، فشهوة قتل الآخر المتفوق، والانتهازية، والتسلق، و... التي كانت وسواها مقدِّماتٍ للخراب الذي تكشّف تحت جلد الواقع، فكان ما كان من تلك الجحيم التي أعتقد أن التاريخ لم يعرف مثيلاً لها، ولن يعرف مهما أوغل الواقع في توحشه وهمجيته وجنونه.