باسم خندقجي: رواية بلون السماء
يأخذنا خندقجي من شوارع المخيم الضيقة الى القدس بعظمتها المتجلية في شوارعها وعقباتها وحجارتها العتيقة.
نقل الأسير الروائي الفلسطيني باسم خندقجي الى سجن نفحة الإسرائيلي جنوب فلسطين المحتلة بعد زيارة وزير الأمن الإسرائيلي المجرم ايتمار بن غفير السجن وطلبه تشديد الإجراءات ضد الأسرى.
خندقجي المتحدر من مدينة نابلس أمضى 19 عاماً من أصل مدة حكمه البالغة ثلاثة مؤبدات. لكن سنوات السجن لا تعيق تقدمه الأكاديمي والأدبي. لا بل أصدر أربع روايات هي: مسك الكفاية، سيرة سيدة الظلال الحرة، خسوف بدر الدين، ونرجس العزلة وآخرها "قناع بلون السماء" الصادرة عن دار الآداب في بيروت، إضافة الى ديواني شعر هما: "طقوس المرة الأولى" و"أنفاس قصيدة ليلية".
ومع تردد اسم خندقجي في عناوين الأخبار ينبغي تسليط الضوء على روايته الأخيرة "قناع بلون السماء" التي نشرت عام 2022 وأعلن أنها ستكون الأولى من أربعة أجزاء بإسم "رُباعية المرايا" على أن تطبع الأجزاء المتبقية لاحقاً، عبر دار الآداب.
الرواية تتناول مرحلة من حياة نور الصموت، ابن مخيم لاجئين قرب رام الله حين يقرر أن ينتحل شخصية "اور شابيرا" اليهودي الذي وجد بطاقة هويته في جيب معطف مستعمل اشتراه من "سوق العتق" في مدينة يافا المحتلة.
هي مرحلة دقيقة يمر بها الشاب الفلسطيني الذي أثر الصمت، على غرار والده، بعد اعتقاله مقاوماً وتغيّر أحوال فلسطين جراء توقيع اتفاقات أوسلو وتحول المقاتلين الى مناضلين بدرجة "شخصية مهمة جداً" VIP .
يتقدم خندقجي في سرده عن نور عالم الآثار الساعي لكتابة رواية عن مريم المجدلية التي تؤرخ سيرتها لسيرة فلسطين نفسها، في رواية تتآلف مساراتها الثلاث في آنٍ معاً. مسار تاريخي يحكي عن تاريخ مريم المجدلية، ومسار واقعي للرواي نور يخبرنا بتطورات خطة نور للتحول الى اور، ومسار تفكري يوثق نور من خلاله أفكاراً عبر رسائل صوتية الى صديقه مراد المعتقل في سجون الاحتلال.
تنسكب المسارات الثلاث في سرد مشوق ودقيق قادر على بث الإحساس بالرهبة والخوف والصراعات الداخلية التي يعايشها نور من خلال مغامرته التي وضعته أمام أسئلة وجودية، من غير المبالغ فيه القول إنها حتما شاغلت الفلسطينيين عبر العقود الماضية من عمر نكبتهم. أسئلة عن الواجب تجاه الأسرى وأسرهم، والموقف من المحرقة ومن أطفال الصهاينة ومن أحقية سردية الفلسطيني المهمشة في مقابل تضخيم الرواية الصهيونية على حساب الحق الفلسطيني.
بجزالة وبراعة، ينسج باسم خندقجي تفاصيل الرواية متنقلاً بين الماضي والحاضر والتردد والإقدام. يأخذنا من شوارع المخيم الضيقة التي أوجدتها الحاجة والاستعجال الى القدس بعظمتها المتجلية في شوارعها وعقباتها وحجارتها العتيقة، مرافقاً أحد شخصيات المدينة وسارداً بعض تفاصيل تاريخها الممتد في ناسها وأزقتها حتى اليوم .
تتصاعد الرواية التي تشبه المونولوج أو الحديث الذاتي سريعاً حتى لحظة الكشف عن الآثار التي تخبئها أرض مجدو التي أصبحت مستعمرة صهيونية.
حينها تتجلى دقة الرواية الفلسطينية التي تختزنها الأرض في مقابل هشاشة وتداعي الرواية الصهيونية، ما يضع نور أمام تحدي الانحياز الى هويته التي تستفزها وجود فتاة حيفاوية من حملة هوية الاحتلال متحدرة من بقية باقية من أهل فلسطين في الأرض المحتلة عام 1948.
لن يحتاج نور الكثير من الوقت قبل أن يختار، ويضعنا أمام مجموعة أسئلة تحفر في العقل النقدي والوجدان الشخصي والجمعي. أسئلة من قبيل ماذا يعني أن تكون فلسطينياً؟ كيف تمارس فلسطينيتك وأنت المحاط بكل وسائل التدجين من اتفاقات تسلبك الأرض، أصل الحكاية؟ والمحاط بأزرق وأبيض علم "إسرائيل" كيفما توجهت حتى تصبح لقية هوية زرقاء طوق خلاص، وإن مؤقتاً، من تكرار يوم الفلسطيني الصامت حد الاختناق فيما تضج دواخله بآلاف الأفكار والأسئلة؟
مع إعلان نور انحيازه الفلسطيني في نهاية هذا الجزء الأول من رباعية المرايا، يبرز شكر خندقجي للأسرى الذين ساهموا في تعميق مداركه عن علم الآثار وأيضاً عن مدينة القدس، إضافة الى الباحث الفلسطيني المعروف جوني منصور بسبب إفادته خلفية الروائي بتفاصيل عن مدينة حيفا. شكر بسيط ومباشر قادر على نقل صورة التواصل الإنساني والوجداني والمعرفي في السجون أكثر من اعمال وثائقية، مفقودة بطبيعة الوضع في السجون. وهو شكر الباحث الدؤوب والأديب المتواضع كما يبدو باسم المسجون منذ عام 2004 من خلال روايته التي تستحق الوقوف عندها نقدياً وجماهيرياً، كأحد أبرز الأعمال التي أنتجها أدب السجون.
هي رواية بلون الحرية والأفكار التي لا تحد وأسئلة الإطار الاخلاقي التي يختبرها الفلسطيني في سجنه الأصغر في زنازين الاحتلال، أو في سجنه الأكبر وهو وجود الاحتلال بذاته.