نسعى للعيش موحدي المشاعر والقيم.. لماذا لم نصل إلى "المواطنة العالميّة"؟
يسعى البشر للعيش في إطار مشترك يوحد مشاعرهم وأفكارهم وقيمهم. يُختصر هذا السعي بمفهوم "المواطنة العالمية"، فما هي هذه المواطنة؟ وما العوائق السياسية والثقافية التي تعترضها؟
من المفروض أنّ البشر بصفةٍ عامّةٍ يسعون إلى العيش في إطارٍ يساعدهم على توحيد مشاعرهم وأفكارهم وقيمهم، التي نسمّيها عادةً "القيم الإنسانية المشتركة"، على غرار الخير والعدالة والحرية وحقوق الإنسان. حتى أنَّ نشأة مفهوم الدولة بحدّ ذاته كان من أجل تحقيق هذه الغاية، فالدولة تحاول قدر المستطاع، و في حدود فن السياسة، من حيث هو فن الممكن، أن توحّد مواطنيها في سياقِ هذا الرهان.
ومن أجل ذلك نعتبر دائماً أنّ بلوغ الكُلّي والكوني هو من المطامح الإنسانية السامية، التي جعلت الفلاسفة والمفكّرين منذ القدم يحلمون بتأسيس نمطٍ سياسي كوني، وهذا النمط يأخذ أشكالاً متعدّدة، فتارّةً نتحدّث عن "الدولة الكونية"، وطوراً عن "المواطنة العالمية" و"المواطن العالمي"، وتارّةً أخرى عن ضرورة قيام "دستور كوني". وكلُّ هذه الأفكار ذات النزعة الكونية تحاول أن تتجسّد اليوم في مشروعٍ راهنٍ هو "العولمة".
غير أنّ هذا النزوع إلى الكوني والإنساني، بما فيه من دلالات إنسانية راقية، يصطدم بواقعٍ مغايرٍ لما ينبغي أن يكون. فما هو كائنٌ بالفعل في عالمنا اليوم هو واقع الصراع بين الدول، وهو صراعٌ يتجسّد في الحروب والمعارك والفتن، وما يرتبط بها من عنصريّة وكراهية وتضاربٍ في الهويات، لذلك فإنّ أشكال الصراع تتأرجح بين ماهو اقتصادي من جهةٍ، وما هو ثقافي وحضاري وهوياتي من جهة أخرى، وهذا ما يبدو أنّه الأخطر. فكيف يمكن، بهذا المعنى، أن نطمح إلى نوعٍ من المواطنة العالمية، أو نوعٍ من التقارب الإنساني بواسطة القيم الكونية المشتركة، في عالمٍ تسوده الصراعات الدوليّة والإقليمية، ويغلب عليه منطق الهيمنة والاستعلاء الثقافي والحضاري؟
وبلغةٍ أخرى، هل من سبيلٍ إلى تجاوز "عوائق الإنساني"، من أجل بلوغ كونيةٍ منشودةٍ تعامل الإنسان كغايةٍ في حدِّ ذاته، لا كوسيلة؟
مشروع المواطنة العالمية
إنّ مفهوم "المواطنة العالمية" ليس مفهوماً مستحدثاً أو جديداً، بل يعود في جذوره إلى الحقب اليونانية والرومانية الأولى.
غير أنّ واقع العولمة اليوم فرض علينا النظر فيه من جديدٍ، بحُكم الانفتاح الذي يعيشه عالمنا المعاصر. فقد أشار المفكّر الروماني أبيكتات إلى هذا المفهوم في أحد نصوصه المشرِّعة للنزعة الكونية للإنسان، بقوله: "فإذا صحّ بأنّ بين الإله والبشر قرابة ما، كما يزعم الفلاسفة، فما الذي يبقى للبشر فعله إلا محاكاة سقراط، أي أن يمتنعوا دائماً عن إجابة من يسألهم من أيِّ بلدٍ هم؟ أنا مواطنٌ عالمي... فمن أين لك أن تسمّي نفسك أثينيّاً أو كورنثيّاً؟ وإذا حصل أن فهمنا أنّ ما هو أساسي، من بين جميع الأشياء، والأكثر أهميةً وكونيةً إنّما هو النظام المؤلَّف من الإله والبشر... فَلِمَ لا يقول المرء عن نفسه إنّه مواطنٌ عالمي؟" [1]. فمفهوم المواطنة العالمية يستبعد أيَّ انغلاقٍ للإنسان على هويّة معيّنة، أو رقعة جغرافية أو دين، بحيث يكون الفضاء الكوني هو عالمه الحقيقي.
صحيحٌ بأنّ "المواطن العالمي" يمكن أن يحتفظ بهويّةٍ تُميّزه، لكنّها لا تمنعه بأيِّ شكلٍ من الأشكال من أن يكتسب حقوقاً كونية، هي بمثابة الإرث المشترك للإنسانية. وهذا تماماً ما انتبهت إليه دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، حين صاغت ميثاقاً عاماً لحقوق الإنسان، برزت فيه طبيعة هذه الكونيّة المنشودة. لكنَّ المفارقة الكبرى تمثّلت في ما بعد في أنّ الدول نفسها التي صاغت ميثاق حقوق الإنسان، قامت بدوسه والاعتداء على أبسط مقوماته.
كان المبدأ الأساس لهذه الحقوق كونياً في جوهره، ينظر إلى البشر بصفتهم وحدة تعيش في عالمٍ مشتركٍ لا تمييز فيه، إذ أنّ "لكلِّ إنسانٍ حق التمتع بكافة الحقوق والحريات... من دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي، أو أيِّ رأي آخر، ومن دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلاً عمّا تقدّم، فلن يكون هناك أيُّ تمييزٍ أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد" [2].
من جهةٍ أخرى، فإنّ المواطنة العالمية لا تتحقّق بمجرّد الانتماء إلى جماعة عالمية أو كونية، أو حتى الانتماء إلى إنسانيةٍ بلا جنسية أرادت أن تجتمع فقط، بل إنّ المواطنة العالمية الحقيقية تتطلّب التمتّع بحقوق عادلة ومنصفة ضمن أفق العالم المشترك، وهي كذلك المواطنة التي تعني في أساسها أن تكون هذه الحقوق مدنية وسياسية، ومرتبطة دائماً بالاعتراف السياسي بجماعةٍ بعينها، أي بمبدأ "الحق في أن يكون لنا حقوق" [3].
مفهوم المواطنة العالمية يستبعد أيَّ انغلاقٍ للإنسان على هويّة معيّنة، أو رقعة جغرافية أو دين، بحيث يكون الفضاء الكوني هو عالمه الحقيقي.
إنّ "المواطن العالمي" يمكن أن يكون نموذجاً للإنسان الذي لا تكون له أيُّ هويةٍ، ولكنّه في المقابل يحتفظ بكلّ الهويات الممكنة، وهذا هو معنى "الهوية المركبة"، بحيث أنّ طبيعة هويته المركّبة تُلزمه أن يحافظ كذلك على تنوّع الثقافات في داخله، وتدفعه إلى تطوير الوحدة الثقافية للإنسانية، ذلك أنّ تلاقح الأفكار والثقافات والأعراق يكون دافعاً لإبداع التنوّع وضمان التجديد. وهنا ينبغي أن يحلّ التلاقح والتنوّع محلّ التجانس والانغلاق، لنرتقي بالإنسانية إلى مرتبةٍ أعلى في التعايش الحكيم.
وكما بيّن الفيلسوف إدغار موران، فإنّ الإنسان مدعو إلى "تنمية هويّته متعددة المنابع، والتي تسمح بأن تدمج داخلها الهوية العائلية، والهوية الجهوية، والهوية الإثنية، والهوية الوطنية، والهوية الدينية أو الفلسفية، والهوية القارية، والهوية الأرضية. غير أنّ هذا الذي جرى تلقيحه يمكن اعتباره، في جذور هويته المتعدِّدة، قُطباً عائلياً مزدوجاً، وقُطباً إثنياً، وطنياً وحتّى قارياً، يسمح له أن يشكّل في ذاته هويّة إنسانية مركّبة بشكلٍ تامٍّ" [4].
وهذه الهوية المركّبة هي التي تجعل البشرية تحلم بوجود إطارٍ قانوني وحقوقي، يضمن لها العيش المشترك من دون الاعتداء على كرامة أيِّ فئةٍ من فئاتها. والأمر هنا لا يتعلّق بنوعٍ من المثالية، كحبّ البشر بعضهم البعض، وإنّما يتعلّق الأمر بالحق، كما يقول الفيلسوف كانط. فحُسن الضيافة مثلاً يعني الحقّ الذي يعني الّا يُعامل الأجنبي كالعدو حينما يصل إلى بلدٍ غير بلده، أو أن يُرفض استقباله، أو يتمّ تعريض حياته للخطر، أو مقابلته بأيِّ نوعٍ من أنواع الكراهية ما دام مسالِماً. وفي مقابل ذلك كلّه يكون له "حق الزيارة"، وحق منح نفسه الانتماء إلى المجتمع، وهو حقُّ لكلِّ البشر.
وهكذا "بمقتضى حق الملكية المشتركة لسطح الأرض التي، بحكم كرويتها، لا تسمح للبشر أن ينتشروا فوقها إلى ما لا نهاية له، وهم مجبرون في نهاية الأمر على أن يتحمّل بعضهم بعضاً جنباً إلى جنب. ففي الأصل ليس لأيِّ إنسانٍ حقٌّ أكثر ممّا لغيره في التمتّع بمنافع الأرض. وعلى هذا النحو تتمكّن قارات متباعدة من إقامة علاقات سلمية، تأخذ في النهاية طابع القوانين العامة، وتسمح للجنس البشري أن يقترب شيئاً فشيئاً من دستورٍ كوني" [5].
"المواطن العالمي" يمكن أن يكون نموذجاً للإنسان الذي لا تكون له أيُّ هويةٍ، ولكنّه في المقابل يحتفظ بكلّ الهويات الممكنة، وهذا هو معنى "الهوية المركبة"، بحيث أنّ طبيعة هويته المركّبة تُلزمه أن يحافظ كذلك على تنوّع الثقافات في داخله، وتدفعه إلى تطوير الوحدة الثقافية للإنسانية.
إنّ المواطنة العالمية تفرض علينا احترام بعضنا البعض، على الرغم من اختلافنا وتنوّع ثقافاتنا. وفي المستوى الدولي تتأتّى ما تسمّى بـ"الشرعية الدولية" أساساً من احترام سيادة الدول الأخرى، حتى مع امتلاك القدرة على إخضاعها، كما تأتي من احترام الاتفاقيات والمعاهدات القائمة فيما بينها، حتى مع امتلاك القدرة على انتهاكها.
وهكذا فإنّ القبول بالتعدُّدية هو خير وسيلة لحماية استقلال كلِّ طرفٍ واحترام وجوده. ذلك أنّه مهما كان التوجّه نحو الكونية مطمحاً إنسانياً أقصى، فإنّ أمر التجانس الثقافي يبقى هدفاً غيرَ قابلٍ للتحقق واقعياً، لأنّ ثقافات الأقليات بدت في عالمنا أكثر صموداً من المتوقّع، ذلك أنّ الحدود النفيذة، وتنامي الهجرة والتنوّع الإثنوثقافي، تجعل التجانس الثقافي مستحيلاً، فجزء كبير من الناس الذين يهاجرون اليوم إلى بلدان جديدة يستقرون فيها، يحافظون مع ذلك على علاقات عائلية واجتماعية واقتصادية مع مجتمعاتهم الأم، ويملكون هويات متعدِّدة وأكثر من جنسية واحدة.
إنّ المبدأ الذي يفرض علينا الانتماء سياسياً وثقافياً إلى دولة أو أمّة واحدة أصبح غير قابل للتطبيق، إذ يلزمنا نموذج جديد للمواطنة العالمية، يمكنه أن يحطّم الرابطة بين الانتماء والإقليمية، فعلى الأفراد أن يكونوا قادرين على ممارسة حقوقهم من جهةِ كونهم كائنات بشرية، وليس من جهة كونهم كائنات قومية.
قد يكون هذا النموذج متعدّد الثقافات بالمعنى الذي قد يعترف فيه بالتنوّع العرقي والهويات المتعددة [6]، ذلك أنّ التخلّص من النزعات القومية أو المحلية يجعل البشر يعيشون إنسانيتهم الكاملة، التي تستوعب كلّ الهويات والثقافات الممكنة، مهما كانت تناقضاتها. وهذا هو معنى "الإنسان الأصيل" و"الإنسان الأسمى"، الذي نجده عند نيتشه، الذي بشّرنا بميلاده بالقول: "لا يظهر الإنسان الأصيل في الحياة إلا حيث تنتهي حدود الدول، فهنالك يتعالى نشيد الضرورة بنغماته المحرِّرة من كلِّ مطاوعة وتقييد. هنالك عند آخر حدود الدول، قفوا وتطلعوا، يا إخوتي، إنّما ترون تحت قوس قزح المعبر الذي يجتازه الإنسان الكامل"[7].
ولكن بالرجوع إلى الواقع البشري الراهن والأوضاع السياسية العالمية، ينتابنا كثيرٌ من الشك في مدى توفّر شروط عيش هذا "الإنسان الأصيل"، أو هذا "المواطن العالمي" الذي كثيراً ما تغنّى به الفلاسفة والمفكّرون.
عوائق الكونية: من السياسي إلى الثقافي
يبدو لنا أنّ هناك عائقاً سياسياً كبيراً يمنع تحقق هذا النوع من المواطنة العالمية، التي تحاول أن تلتحف برداء الكونية،
وتتجسّد في عالم موحّد، ذلك أنّ القوى السياسية العظمى تنظر اليوم إلى العالم على أنّه عالم منقسم بالضرورة إلى "هم" و"نحن"، وهذا تقسيم قديم في الحقيقة، حيث أنَّ التقسيمات كانت موجودة دائماً، على شاكلة "جماعتنا والآخرين"، "حضارتنا وأولئك البرابرة"... وقد كان الغرب قبل بداية الفترة الاستعمارية يصف القبائل المنعزلة في القارة الأميركية، المحتفظة بهويتها وثقافتها الخاصة، بأنّها "مجموعات متوحشة"، وذلك بسبب أنّها لم تحصل من الفكر الإنساني إلا على قدرٍ قليلٍ من الآداب، ولكونها لصيقة بسذاجتها الأصلية. وهذه النزعة التحقيرية الإقصائية لفئة من سكان العالم لاقت النقد والفضح في الحقيقة، حتى من بعض مفكِّري الغرب أنفسهم، مثل مونتنيو (Montaigne)، الذي أكّد على أصالة الأقوام البدائية في قارة أميركا الجنوبية، الذين شوّهتهم الآلة الاستعمارية، حيث قال عنهم: "لا ينبغي أن نسمّي بالأحرى متوحشين هؤلاء الذين شوهناهم بحيلنا، وحِدْنا بهم عن المسار العام للنظام. في هؤلاء تكمن الفضائل والخصائص الحية والنشيطة والحقيقية، والأكثر نفعاً وطبيعية، وهي التي هجّنّاها فيهم، فلم نقُم إلا بملاءمتها مع متعة ذوقنا الفاسد... لا يحقُّ لنا إذن أن نسمّيهم همجيين إلّا قياساً على قواعد العقل، لا قياساً علينا نحن، نحن الذين نفوقهم في كلِّ أشكال الهمجية" [8].
السياسي هو الذي يخلق أوهام التقسيم، حين يدّعي بأن مهمته الأصلية تتمثل في التمييز بن الصديق والعدو. هذا التمييز يعبّر عن درجة قصوى من الإقصاء، والعدو السياسي لا يكون شريراً بالضرورة على الصعيد الأخلاقي، ولا منافساً على الصعيد الاقتصادي، ويمكن في السياق نفسه أن يكون مفيداً.
إنَّ تقسيم البشر وتقسيم العالم يُعد أكبر عائقٍ لبلوغ الكونية، أو التفكير أصلاً في أيِّ شكلٍ من أشكال المواطنة السياسية العالمية. وهناك الكثير من الباحثين الذين قسّموا العالم إلى شرق وغرب، شمال وجنوب، مركز وهامش... رأينا كيف أنَّ بعض المفكّرين الاستراتجيين الأميركيين قسّموا العالم إلى "مناطق سلام" و"مناطق فوضى"، الأولى ضمّت الغرب واليابان، يسكنها 15% من سكّان العالم، والثانية شملت بقية العالم. وبالإضافة إلى ذلك، أحدثوا تقسيمات أخلاقية من قبيل "محور الشر" و "محور الخير"...
إنَّ السياسي هو الذي يخلق أوهام التقسيم، حين يدّعي بأن مهمته الأصلية تتمثل في التمييز بن الصديق والعدو. وهذا التمييز يعبّر عن درجة قصوى من الإقصاء. والعدو السياسي لا يكون شريراً بالضرورة على الصعيد الأخلاقي، ولا منافساً على الصعيد الاقتصادي، ويمكن في السياق نفسه أن يكون مفيداً، قد نعقد معه صفقات تجارية وتبادلات في الظرف المناسب، فالسياسة تبرّر ذلك بقولها: "لا صديق دائم ولا عدو دائم في السياسة".
ومع ذلك "يتفق ببساطة أن يكون العدو السياسي هو الآخر، الأجنبي، وأنّه يكفي، لتحديد طبيعته، أن يكون، في المعنى الدقيق لوجوده بالذات، ذلك الآخر الأجنبي في الحدود، التي لا يمكن للصراعات معه أن تجد حلّاً بمجموع المعايير العامة القائمة بشكلٍ مسبقٍ" [9].
ويمكن اعتبار الاستعمار العامل السياسي الأخطر الذي يعيق سكان العالم عن العيش في فضاءٍ مشتركٍ من المواطنة العالمية، التي تستند إلى القيم الإنسانية السامية. وما يحرّك النزعة الاستعمارية لدى الدول العظمى هو نهب الثروات والأطماع التوسعية بشكل أساسي. فالدول الغنية اليوم تشترك في عدة ميزات (الرفاهة، التحضر، التعليم...) تجعلها في موقعٍ متعالٍ على الدول الفقيرة التقليدية، وهذا في حدِّ ذاته دافعٌ للإقصاء. فالاختلافات في الثروة تخلق الصراعات بين المجتمعات، وهذا ما نشاهده مجسَّداً في محاولات الدول الغنية والأكثر قوة لغزو الدول الفقيرة واستعمارها، "وقد قام الغرب بذلك لمدة 400 سنة" [10].
بالإضافة إلى العامل السياسي، فإنّ أكبر خطرٍ يهدِّد الوحدة الإنسانية هو العامل الثقافي و الحضاري، ذلك أنّ العالم يعيش فوضى عارمة، فهو حافلٌ بالنزاعات القبائلية والقومية، ولكن الصراعات أو النزاعات التي تكوّن أخطاراً كبيرة على الاستقرار العالمي، هي تلك التي تدور رحاها بين الدول أو الجماعات من حضارات مختلفة وثقافات متنوعة. فلم تعد الحروب والصراعات لأسباب اقتصادية فقط، أو لأطماع توسّعية، بل صارت تنتشر لأسباب عدائيّة لا إنسانية، تتعلّق بالهوية الثقافية أو الدينية أو العرقية، وهذا النوع من التقسيمات هو أخطر الأنواع على الإطلاق.
الصراعات الثقافية تأخذ في الازدياد، وهي أكثر خطورةً اليوم من أيِّ وقتٍ مضى في التاريخ. وقد أقرَّ الكثير من المفكّرين الاستراتجيين أنّ الصراعات المستقبلية ستوقد شرارتها بالفعل عوامل ثقافية، وليست اقتصادية أو إيديولوجية، وستحدث عبر خطوط الصدع بين الحضارات.
وقد بيّن صموئيل هنتنغتون كيف أنّه في النزاعات بين اليوغسلافيين، قدّمت روسيا الدعم الدبلوماسي للصرب، بينما قدّمت السعودية وتركيا وإيران وليبيا المال والسلاح للبوسنيين. ولم يكن ذلك لأسبابٍ اقتصاديةٍ أو حتى إيديولوجية، ولكن بسبب الصلات أو الروابط الثقافية. إنّ الصراعات الثقافية تأخذ في الازدياد، وهي أكثر خطورةً اليوم من أيِّ وقتٍ مضى في التاريخ. وقد أقرَّ الكثير من المفكّرين الاستراتجيين أنّ الصراعات المستقبلية سوف توقد شرارتها بالفعل عوامل ثقافية، وليست اقتصادية أو إيديولوجية، وستحدث عبر خطوط الصدع بين الحضارات [11].
وربما يتمثّل الحل هنا في العمل على إنقاذ "الكوني" من موت حتمي، وذلك عبر الاعتراف بقيمة الثقافات الأخرى المختلفة، من دون إخضاعها بالقوة. وهذا الإخضاع هو الذي تمارسه اليوم الثقافات المهيمنة، وخاصّةً الثقافات الغربية التي تسعى إلى ابتلاع خصائص الهويات المتنوّعة، وهذا ما نبّه إليه بودريار بقوله: "كل ثقافة تتعمّم تفقد خصوصيتها وتموت، هكذا كان أمر كل الثقافات التي دمّرناها بدمجنا إياها بالقوة" [12].
في إطار هذه الحروب الثقافية، تبرز اليوم صراعات ونزاعات في العالم لا تسمح لنا بأن نحلم كما كنا بميلاد "كونية جديدة"، تقوم على مبادئ "المواطنة العالمية" وقيم إنسانية مشتركة وحقوق طبيعية، لأنَّ هذه الصراعات تقوم على فكرة التطهير العرقي، والاضطهاد الثقافي والحضاري، وهي فكرة يستحيل معها أي عمل تأسيسي.
وهذه الحرب التطهيرية موجودة بالفعل في عالمنا الراهن، وتذهب ضحيتها الأقليات العرقية والدينية خاصّةً، المنتشرة في أصقاع العالم كلها، ويكفي أن نذكر ما تعانيه تلك الأقليات حتى نفهم مدى خطورة الصراعات الثقافية، والتهديد التي تمثله بالنسبة إلى فكرة المواطنة العالمية والعيش المشترك. ويمكن أن نعاين ذلك من القمع الصيني لمسلمي "الإيغور"، الذي يمكن أن نسميه "اضطهاد الدولة"، إذ تصاعدت الحملة القمعية ضد هذه الأقلية حتى وصلت إلى إنشاء معسكرات اعتقال ضخمة، يجرَّد فيها المسلمون من هويتهم، ويتمُّ إجبارهم على التخلّي عن ديانتهم وشعائرهم. كما يعتبر شعب "الروهينغا" الأكثر اضطهاداً، إذ يعيش في إقليم" آراكان" في دولة ميانمار، وتبلغ نسبتهم 4% فقط من مجموع السكان، وهم يتعرّضون لحملات تطهير عرقي ممنهجة، يقودها الجيش بتحريض من رهبان بوذيين، وقد صنفتهم الأمم المتحدة بصفتهم "أكثر الطوائف المضطهدة في سنة 2017"، وذلك بعد هجمة شرسة قُتِل فيها عشرات الآلاف، وأحرقت قراهم بالكامل، وفرَّ الباقي منهم إلى بنغلادش.
وفي السياق نفسه، يمكن أن نذكر كذلك الأقليات المسلمة في الهند، فهؤلاء يُعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية، يعانون من الاضطهاد منذ سنوات، لكنَّ هذا الاضطهاد تزايد مع صعود مؤيدي رئيس الحكومة مودي، الذي سعى حزبه إلى إقرار قانون يحرم المسلمين من الحصول على الجنسية الهندية.
وعلى الرغم من أنَّ نسبة المسلمين من سكان الهند تبلغ 14%، فإنَّ نسبة تمثيلهم في مؤسسات الدولة لا تتجاوز 1%. ويحصل الشيء نفسه في سريلانكا، إذ أنَّ المسلمين والمسيحيين يتعرضون لأعمال عنف ممنهجة على حدٍّ سواء، من قبل الأغلبية البوذية التي تعتقد أنَّ الأقليتين تشكّلان خطراً على هوية البلاد [13].
تشير هذه النماذج من الواقع السياسي العالمي إلى أنّ مشروع المواطنة العالمية، وإن كان يتغذّى من النزعة الإنسانية نحو قيم الكونية، فإنّه يتعرّض إلى عراقيل وعوائق عديدة، يجتمع فيها السياسي والثقافي والاقتصادي، لنتأكد في نهاية الأمر أنّ ما يفرقنا اليوم هو أكثر ممّا يجمعنا، وأنّ الحلول الجذرية لمشاعر الكراهية والإقصاء والعنصرية تتطلّب الكثير من العمل القاعدي، الذي ينبغي أن يرتكز أساساً إلى التربية والتعليم وإعادة النظر في سلّم القيم السائدة، بما يعزز الأفكار الإيجابية المؤمنة بالتسامح والانفتاح وقبول الاختلاف مهما كان مصدره، و بهذه الطريقة يمكننا أن نأمل في تجنّب صراع الهويات القاتل، الذي يمكن اعتباره اليوم عائقاً أساسياً أمام فكرة "العيش معاً".
المراجع
1- Epictète, Entretiens,1,9, éd. Budé, Paris 1943, P.37
2- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 2، 10 ديسمبر 1948.
3- Tassin, Etienne, Qu'est-ce qu'un sujet politique? Revue Esprit, avril 1997, p.149
4- E. Morin, Une politique de civilisation, Ed. Eléa, Paris 1997, P.118
5- كانط، ايمانويل، من أجل سلام دائم، ترجمة عبد العزيز زمزم و علالة البوعزيزي، الفصل 2، ص60ــ61، مطبعة بالكاهية، تونس 1996.
6 - كاستلاس، ستيفان، العولمة و الهجرة، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد 156، جوان 1998، ص209.
7- نيتشه، فريدريك، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فيليكس فارس، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت 2009، ص57.
8 - Michel Eyquem de Montaigne, Essais, L1, éd. Seuil, Paris 1867, p.p.100-101
9 - Schmitt, Carl, La notion du politique, éd.. Flammarion, Paris 1992, p.p 64-65
10 - هنتنغتون، صاموئيل، صدام الحضارات و إعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة و محمود خلف، الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الإعلان، ليبيا 1999، ص87.
11 - نفس المرجع، ص75.
12 - بودريار، جاك، السلطة الجهنمية، ترجمة د. بدر الدين عرودكي، ورد بمجلّة الفكر العربي المعاصر عدد 134 ــ 531، بيروت 2006.
13 - التريكي، محمد فوزي، أبرز الأقليات المسلمة المضطهدة حول العالم، منتدى العلماء، موقع الكتروني، 2020/1/14.