ماذا فعل مظفر النواب؟
في هذه المساحة يحاول أربعة شعراء عرب من الجيل الجديد، أن يجيبوا عن سؤال بسيط وصعب: ماذا فعل مظفّر النوّاب؟
عن عمر ناهز 88 عاماً، غادرَ الشّاعرُ العراقيُّ مظفّر النوّاب عالمنا، من غرفة بيضاء في مستشفى الجامعة في إمارة الشارقة، بعد رحلة طويلة بين السجون والمنافي والحانات والمنابر. في هذه المساحة، يحاول أربعة شعراء عرب من الجيل الجديد، أن يجيبوا - كلٌّ برؤيته وحساسيّته - عن سؤال بسيط وصعب: ماذا فعل مظفّر النوّاب؟
***
تفرّع كثيراً كالنهر..
زين العابدين المرشدي - شاعر عراقي
إنّ فقد مظفر النواب، لا يعني أننا إزاء فقد شاعر وحسب، بل أننا فقدنا سجلاً عراقياً هاماً، قد واكب العراقيَّ، في تعاقب عقود عليه.قد يكون النواب اختصاراً يمنح علماء الاجتماع فرصة لفهم الكثير عن عراقيي الفترة التي عاشها، وتتبع أحوال الناس ومظاهر حياتهم فيها. أخلص النواب لزمن هو الحاضر، حاضره الذي عاشه معهم، وراح يدوّنه؛ فكم من مأساة عراقيّة نالها معهم؟ وكم من سعادة عراقيّة احتفى بها، أو مرر بكلمات لمطربين كي يوثّقوها؟ وهكذا ظل السجل العراقيّ الثقافيّ.
في الوقت الذي كان النواب شاعراً حداثياً في نصه، كان شاعراً عبّاسياً في التداول والنجومية، وهذا قليلًا ما يتأتّى للشاعر العربي المعاصر. فما انفك الناس يرددون أشعاره في أفراحهم وأتراحهم، مستشهدين بشعر له هنا، وكلمة قالها هناك. هذه الموازنة بين حداثة الكتابة، ونجومية الشاعر العباسي، ومركزيته في يوميّات الناس، من موازناته التي ظلّت ترافقه في حياته، وستمتدّ إلى ما بعدها، تجعلنا نطرح السؤال القائم الشهير، الذي يبدو تقليدياً بعض الشيء: هل الشاعر لسان حال قبيلته وقومه؟
لو أردتُ أن أترك المجاز قليلاً في وصف مظفر النواب لما استطعتُ إلا أن أقول: مظفر نهر. يبدو مجازاً هذا! فليكن.
لقد تفرّع كثيراً كالنهر، أو هو الشاعر الذي أحد مكامن إعجابنا به هو تفرع موضوعاته، وحزنه إزاء ما يحدث لإنساننا العربي. فقد كان يوزّع النوّابُ/النهرُ مياهه بالتساوي، وهو في الوقت الذي كان يعبر عن أحزان أمميّة كبرى تشغل العالم، لا ينسى أن يعبر عن أحزان بسطاء الأهوار ومساكينه في العراق الذين لا تتجاوز أحزانهم عتبات بيوتهم لولاه، لكنّ النواب أوصلها إلينا، فلا فرق بين حزن وحزن عنده، ما دام هناك إنسان يحزن.
وداعاً مظفر النواب، مدوّن أحزاننا، والمنوّه بها.
***
نصّب نفسه أباً للحزن..
رأفت حكمت - شاعر وقاص سوري
ما يهمّني في الشعر أكثر، هو قدرته على جعلي، حين أسمعه، أو أقرأه، أوسَعَ تقبّلاً لما هو في الحقيقة وبعيد عن المجازات. فلا القلب مجرّد قلب، حين تسمع أو تقرأ سطراً من نصٍّ شعريٍّ، قال فيه النّوابُ "مُضغة القلب" مشيراً إلى قاع الحزن، بعد أن تحدّث عن طيور تتناهشُه.
مايهمّني هو الحزن، الذي ينتابني حين أقرأ في نصوصه أيّ عبارة تشير إليه،ولم أرَ يوماً مكاناً للّغة، فيما يملؤنا به شاعرٌ نصّب نفسه في شعرهِ، أباً للحزن. وكان فعلاً في نظري، أباً لذلك.
ذنبُ التّزامن، أنّه وَقّت أوّلَ حزنٍ عشته، مع أوّل مرّة قرأت فيها عبارات مثل "أنام على نفسي من تعبي". من دون أن أعرف من قالها. وإذا أردت التّعبير بأسلوب أقرب إلى لغته القريبة منّا، البعيدة عن مُتناولنا، أقول :" أحببتُ النّواب على صِغَرٍ" في العمر، وفي الشّعرِ كثيراً.
من مكاني، حيث لا يتيح لي رؤية (شِعره وحياته) سوى من زاوية واحدة، اخترتها طواعيةً، أتمكّن حين أفقد شيئاً في داخلي، من أن أجده في النّواب. ولا أهتمّ كثيراً، سوى بــ "يا الله" حين تُنتزع من قلبي، كلّما تذكّرت أنّ حُزنه "كحزن أسواق العراق"، لا بما قال النّقّادُ، ولا بما يحاولُ غيرهم.
لا يهمّني في الحقيقة سوى الشّعر، سوى تلك "الكاسيتات" الّتي هُرّبت فيها قصائده، إلينا.
أحاول دائماً الاقتراب من عمقهِ، ولا أعرف بالضّبط لماذا. خلال السّنوات الأخيرة، كنت أنتظر اكتمال الحكاية، في موته، المُعلن عنه، منذ أوّل مرّة كان على مقربة منه في أقبيةٍ، زجّه الشّعرُ فيها، فحفر تحت الأرض نفقاً، ليعود إليه، ويخبرنا من خلاله، أنّه ماضٍ إلى حتفه. ينظرُ في كلّ نصّ له في أعيننا، مُخاطباً نفسه فينا: "كلّ شيء مستريحٌ هادئٌ، وقريباً، أنت أيضاً تستريح".
اليوم، استراح أبو عادل، آخر مرّةٍ سينام على نفسه فيها، إلى الأبد، من شدّة تعبه.
***
حلّق باللاءات المرفرفة..
محمد إسماعيل - شاعر مصري
كيف يتحوّل الكلام العادي الذي نستخدمه يومياً في يديّ مظفر النواب إلى شعر حقيقي، فيه من نار الشعر ونضجه ما يجعلنا نقفُ بدهشة الأطفال أمام ما يقول؟
كيف لذلك المراهق الذي كنتُهُ أن يتسلل من لغة محمود درويش المليئة بالمجاز المكلل ببعض الغموض، إلى سماء مظفر النواب الواضحة، فيراها، على اتضاحها، أكثر غموضاً؟
كيف لي أن أخرج ليلاً من أضواء لغة نزار قباني التي تنضح بالحبّ، إلى شعلة مظفر النواب العالية فأجدها أكثر عاطفة ودفئاً؟
كانت معرفتي الأولى بمظفر النواب، بعد قراءتي للشاعرين محمود درويش ونزار قباني، ولا أستطيع أن أمحو الدهشة التي اعترتني وقتها، حين قرأت واستمعت لهذا الشعر الحيّ، المتّقد بالحب والوطن والثورة، لهذه اللاءات المرفرفة في بياض اللغة وزرقة الشعر!
إنّ الوقت بين معرفتي به ورحيله الهادئ لا يخضع لمعايير الوقت الطبيعية، فالشعر زمان منفصل، ومكان مغاير. إنه يتمدد كالزئبق في لحظتنا الراهنة إلى لحظات أخرى قادمة، ويستطيع أن يتخذ شكل هذه اللحظات والأمكنة ولونها ببراعة أرنب في القفز.
الآن، في اللحظة التي يتركنا فيها جسد مظفر النواب، لا نقول: وداعاً. بل نقول إن شاعرنا فضّل أن يتخذ شكلاً مغايراً، ربما شعر بالقليل من الملل، فأغمض عينيه، ليستريح قليلاً من صخب الكون، ويطير على شكل (لا) في سماوات الأبدية المجاورة.
وعلى الشعر أن يُكمل رحلته الأبدية، وأن يتخطى الحواجز التي لا يستطيع جسد الشاعر أن يتجاوزها. على الشعر أن يتكلم حين يتوقف فم الشاعر عن النبض، وأن يغني حين تجف العصافير فوق الشجر، وأن يصرخ: لا.. حين تصفرّ كل الرايات في الأعالي.
يا مظفر أنت معنا، كما عهدناك صارخاً كنت أم هادئاً، لم يتغير شيء ولن يتغير، فما الموت في حياة الشاعر إلا ضيف ثقيل الدم قليلاً، يمكنك أن تتمشى معه في الجانب الآخر، أن تسمعه بعض شعرك، أن تستمع له، فقليل من الموتى من يصغي لموته.
لا أقول وداعاً. أقول: لا تغب عنا طويلاً، وإن كان لا بُدّ من الغياب، فحمّل الغيمَ والشجرَ رسائلك وجديد شعرك!
***
تجاهل سؤال التدوين..
حسن المقداد - شاعر لبناني
/فضّةٌ من صلاةٍ تعمُّ الدخول/
كنتُ صبيّاً حين سمعت أوّل قصيدة لمظفّر النوّاب، مازال مطلعها في بالي إلى اليوم، ومظفّر شاعر حزن مفرط، كلماته مرّة من شدّة عذوبتها، وصوته بكائيّ حادّ أمسكني من قميصي وشدّني إلى عالمه الغرائبيّ. لم تزعجني بذاءته يوماً ولا استهجنتها في موضع، ولكنّني كنت أهيم بشطحاته الصوفية وكشوفه المتوارية خلف الكرز والكأس وحليب اللوز.
هل تصلُ اللبَّ؟
هناكَ النّارُ طريُّ
ويزيدكَ عمقُ الكشفِ غموضاً
فالكشفُ طريقٌ عدميُّ
متدفّقاً وعفويّاً، يصرخ ويتمايل، يرمي الشعر من على المنبر، بكلِّ احتراقه وانهياره وعبثه، متجاهلاً سؤال التدوين، تاركاً الصوت شاهداً وشهيداً.
/الحزنُ يجيءُ مع الريح/
وددت قبل رحيله لو أنني استطعت لقاءه، لأرى كيف يحلّ الشعر في جسد فيتلفه أيّ إتلاف، ويجرح الحنجرة أيّ جرح، ويسمو بالحسِّ الكامن أيّ سموّ، فيشفُّ الهائمُ حتّى يصرخ: "أصغرُ شيءٍ في خلقك يسكِرني مولايَ فكيف الإنسان؟".
ووددت بعد رحيله أن أجد طبعة محقّقة وواضحة لكلّ ما كتب في رحلته الكبرى من العراق إلى العراق، مروراً بسجون المنافي وكاسيتات الثوريين ومقاهي الرفاق والحانات الضيّقة والمنابر العالية، أن يعتني أحد لمرّة واحدة وأخيرة بكلّ هذا الفيض الذي تعفّف عن حفر أثره في الورق، ورضي بنصيب الطير من كلِّ أمر.
في "الوتريات الليلية" يركضُ هارباً من عسس العراق ويتعثّر، يطرقُ بابَ منزل في الأهواز، يجيب من الداخل صوت مؤنّث بالعربيّة: من بالباب؟ يرعشه الصوت المؤنّث ووقع العربيّة الساحر في هذه الغربة الحالكة، فيهمس بالحزن الساخن: "أنا يا وطني.. من هرّب هذي النخلة من وطني؟"
رحل مظفر النواب في اليوم الذي يصادف فيه ذكرى وفاة أمل دنقل. هكذا توحّدا بالرّفض والشّعر والحزن ويوم السّفر.
في ذمّة الشعر والخلود يا أبا عادل، تركتَ أثراً بالغاً في الخيال، أو كما قال الصديق الشاعر المصريّ أحمد إمام: "المشربُ غصّ بجيلٍ لا تعرفهُ"، لكنّهُ يعرفك جيداً ويدين لك بالكثير.