رواية "بودا بار" ذات تتموج بين الروحانية والدنيوية

الرواية تسلط الضؤ على واقع الخادمات الأجنبيات في لبنان، من خلال شخصية لوسي الهاربة من ملاحقة، بسبب ارتكابها جريمة قتل في موطنها، الأمر الذي يجعل الشبهة تدور حولها في حادثة القتل إياها.

  • رواية
    رواية "بودابار" ذات تتموج بين الروحانية والدنيوية

بين تسامي الروحانية وجفاف المادية تخلق الكاتبة لنا عبد الرحمن مزيجاً مفهومياً مركباً من تزاوج عنوان روايتها  "بودا بار"، متأرجحة بين مثالية بوذا وما يقود إلى الاستنارة الروحية بمعنى يقظة الكائن الداخلية، وهي الرمز الأساسي لفلسفة الديانة البوذية وطقوسها، وبين عالم الماديات الدنيوي، الذي يومئ إلى متع الحياة وضجيجها وبريقها اللامع، مشاراً إليه بالبار، مكان اللهو والمتعة، ومن هذا العنوان، "بودا بار" الرواية الصادرة عن منشورات ضفاف والاختلاف عام 2020، وهي روايتها السادسة بعد حدائق السراب" (2006) و"تلامس" (2008) و"أغنية لمارغريت" (2010) و"ثلج القاهرة" (2013) و"قيد الدرس" (2016). 

تتقدم الرواية من خلال اللغة الرشيقة والحيوية الناطقة بسلاسة على أفواه شخوصها، لتلقي الضوء على تشابكات الحياة والسياسة التي لعبت بمصائر البشر خلال حقبة زمنية مضت، وألقت ظلالها على حاضرهم ومستقبل وجودهم الرجراج، وخصوصاً فيما يتعلق بمفهوم الهوية والانتماء والهجرة والثبات في المكان، والسؤال عن الحل لهذه البلاد النابذة لأبنائها، وهل السؤال الذي تطرحه الكاتبة كحل بالثبات في المكان الذي جسدته شخصية الجد الطبيب يوسف، أو الرحيل والهروب من مناطق التوتر، كما جسدتهما شخصيات دورا وفرح والحفيد يوسف؟ فلكل منهم أسبابه المنطقية ومتاعبه الخاصة، لكن هذا التساؤل مشروع، ويمكن عدّه سؤال العمل الحائر والمحير فما هو الخيار؟ 

من الصفحات الأولى تصدم الكاتبة لنا عبد الرحمن القارئ بجريمة قتل راحت ضحيتها امرأة، جمانة، ذات الجمال الساحر والطلة البهية والحضور الآسر، والذي يجعلها مهوى الأفئدة أينما حلت وكيفما تحركت، لتتمحور حول مصرعها حكايات الشخصيات الأخرى وتداعياتها بين محب وكاره، وبين راغب ومحجم، وبين مهتم ومتجاهل للحدث، لكنها استطاعت من خلاله أن تلتقط انتباه المتلقي وإثارة عنصر التشويق لديه، الأمر الذي يوهمه بداية بأننا أمام إحدى روايات أغاثا كريستي ووجود محقق يجري استجواباً مع أغلبية الجوار، ومن خلال ذلك استطاعت الولوج إلى خفايا شخصياتهم وهمومهم ومشاكلهم العالقة، لكن الأحجية كانت في اختفاء الجثة الضحية، وهو ما يبلبل أفكار القارئ: هل ثمة جريمة فعلاً، أم أن الأمر عبارة عن استيهامات ذهانية. ومن خلال ردود الأفعال، تتقاطع مصائر الشخصيات الأخرى وتنفذ إلى أعماقها.

 جمانة القتيلة، امرأة بارعة الجمال، يعشقها الكثيرون وتعيش أهواءها عبر العلاقات العميقة والعابرة، على حد سواء، وتعيش حريتها بالانفتاح والتخلي، بحسب ما تريد وما تملي عليها رغباتها، إلى أن استقرت مع زوجها مروان في الشقة التي حصلت فيها الجريمة في التجمع السكني بودا بار، أو مجمع عمارات ديبة. 

جمانة، التي أشبعت نفسها بالمتع الدنيوية، انصرفت في النهاية إلى الاهتمام بالعوالم الصوفية، كمن يبحث عن ملاذ لروحه المضطربة، التي لم تستطع إغراءات الحياة ورغد العيش أن تهدّئ نفسها المتقلبة، وأن تُسكّن قلقها في بحثها المحموم عن الخلاص في الصحوة الروحية. 

يحتشد النص بواقع شخصيات تعاني جرحاً في وجودها ووجدانها، كونها ناجية من حرب أهلية تركت بصماتها الدامية في بناها وعقدها النفسية، تنفذ منها إلى شخصية    

إيمان، المرأة المطلقة، وهي إنسانة مكافحة تقوم على تربية ثلاث بنات، ومع ذلك تعاني النظرة الدونية التي يتبناها المجتمع حيالها كونها امرأة مطلقة، والأذية المستمرة من طليقها الذي يحاصر حياتها ونجاحها، وتتمتع بصداقة نادرة مع هيام، قارئة أوراق التاروت، والتي تعمل في التنجيم وقراءة الفنجان، والتي تنبأت بدم في شقة الجريمة. وكل هذه الشخصيات تتجاور مع ديبة مالكة التجمع السكني ليتضح أنها كانت من أمراء الحرب، الذين تفننوا في الاستفادة من أهوال الجحيم الذي مر على البلاد وخرجت منها بثروة مولت مشروعها الخاص بعد انتفاء أسباب الإتجار بالموت في مرحلة سابقة.

لا تحصر عبد الرحمن العمل في قضايا نسوية، وإنما تعرضها كشريحة من المجتمع، لكنها لا تنفي انحيازها النسوي، فالشخصيات النسائية هي من يحصد نتائج قسوة المجتمع عليها. فدورا فتاة مغتربة في أستراليا وقدمت إلى لبنان لتمارس دورها الإنساني في العناية باللاجئين السوريين. ومن هذه الزاوية تطل على أزمة الجوار السوري والآلام والتشرد التي عاناها الشعب السوري في محنته، لتوجه عواطفها واهتمامها إلى صبية في عمر الورود، فرح، لتكون بديلاً من أمومتها المحرومة منها، لأن الرجل الذي أحبته ووثقت به يرفض فكرة أن يأتي بطفل إلى هذا العالم الظالم، ففجرت حنانها وأمومتها المُقصاة تجاه المعذبين والمشردين من حولها. 

هنالك أيضاً إضاءة على واقع الخادمات الأجنبيات في لبنان، من خلال شخصية لوسي الهاربة من ملاحقة، بسبب ارتكابها جريمة قتل في موطنها، الأمر الذي يجعل الشبهة تدور حولها في حادثة القتل إياها.   

وفي تقصيها دواخل شخصياتها، اعتمدت تقنية الأصوات السردية المتعددة فاختصت أغلبية الشخوص بالتعبير عن ذاتها كونها راوية للحدث أو الحديث عما يعتمل في ذاتها بلسانها لنتعرف إلى كيفية تلقيها خبر الضحية. وفي الوقت ذاته تدور الشبهات حول الجميع، فالزوج مروان، العاشق المصدوم بمصرع زوجته، والفاقد حنان الأم والزوجة، مع حاجته الماسة إلى حضن يتكئ عليه، بررت اقترابه من المعالجة النفسية دورا، لكن يتضح في آخر مشهد أنه يعاني حالة عصاب جعلته يربطها بالكرسي خوفاً من أن تتركه، على رغم حالة التوافق والانسجام بينهما، الأمر الذي يجعلها تتعجل الرحيل عن هذا الجو الموبوء والمشبع بالأزمات النفسية والذكريات الحزينة.

تبقى شخصية الطبيب يوسف ملاذ الجميع، وهو الشجرة العتيقة الراسخة في المكان، والذي لم يتبق لديه سوى حفيده بعد فقده ابنه وزوجته الألمانية، اللذين أودى بهما انفجار في أثناء تغطية صحافية في أفغانستان، كما تتضح فكرة صراع الأجيال بين الطبيب يوسف الذي يريد لحفيده، سميّه، أن يتجه إلى دراسة الطب، في الوقت الذي يتجه طموح الشاب إلى الاهتمام بالموسيقى، لكننا في بلدان الشرق لا نتمتع برفاهية اختيار هواياتنا وممارستها، وتنمية مواهبنا، وإنما الاتجاه إلى مهنة تدر المال وتحفظ ماء الوجه من العوز والحاجة، الأمر الذي لم يتفهمه الشاب، بل تحمس لفكرة الهجرة التي غذتها فرح، اللاجئة السورية التي لقيت الأهوال في رحلة نزوحها من حلب إلى خيمة اللجوء في بيروت، ليكون حلمها الأوحد الرحيل بعيداً عن لعنة المكان. وهي تمثل هنا، مع الحفيد يوسف، شريحة الشباب التي تطمح إلى الهروب وتبديل المكان والخروج من جحيمه، كونه وطناً نابذاً لأبنائه. 

تنتهي الرواية ولم يعرف القارئ أين ذهبت الجثة الضحية، وهل هناك ثمة حادثة قتل بالفعل، أم من تهيئ خلقته هلوسات الخادمة. هذا الغموض، في اعتقادي، قصدت منه الكاتبة رمزية الضحية المهددة بالموت دائماً، الجمال هو المهدد من حساده، كذلك بيروت الجميلة كثر محبوها وأعداؤها لأنها تجسيد للجمال الذي تتمتع به شوارعها وبيوتها؛ ومناخ الحرية المفتوح فيها. كل ذلك جعل الحقد والكراهية يتربصان بها في كل مفترق، ومع ذلك تبقى عيناها تتطلعان إلى الفرح والحياة، وهي دائماً مثل طائر الفينيق تنهض من رمادها من جديد.