أبو خليل القباني: غربة قبل الرحلة إلى شيكاغو وبعدها
حمل لقب "رائد المسرح العربي"، وثار عليه علماء الدين منذ بداية مسيرته.. لماذا حورِب أبو خليل القباني؟
يذكّرنا أبو خليل القباني، عند الحديث عن المسرح السوري، بتلك الصورة التي يفصّلها ميلان كونديرا في روايته "الخلود": "كان غوته يتأمل ستاراً في مسرح لايبزيغ، وكانت الصورة المرسومة على خلفيته تمثّل له معبد المجد. أمامه يظهر كل عظماء المسرح على مرّ العصور، يتوسطهم، ومن دون أن يعيرهم اهتماماً، رجل بسترة خفيفة يتجه رأساً إلى المعبد. وهو مصوَّر من الخلف، ولم يكن فيه أي شيء يلفت النظر. إنه شكسبير المنطلق لملاقاة الخلود بلا دعم، ومن دون روّاد سابقين".
تاريخ موجز: تكليف عثماني ومعارضة شيوخ
يوجز الباحث تيسير خلف تاريخ حياة القباني، في كتابه "من دمشق إلى شيكاغو، رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893"، ويمكن ذكر بعض تفاصيل حياته على النحو التالي:
وُلد أحمد بن محمد بن حسين آقبيق، الشيخ "أبو خليل القباني"، في دمشق، عام 1842 (وهو تاريخ يؤكّد خلف أنّه تاريخ الميلاد الصحيح للقباني، رغم وجود مصادر تردّه إلى العام 1833 وأخرى إلى العام 1835). بدأ التفكير بالمسرح بعدما شاهد مسرحيةً في مدرسة اللعازارية. بدأ نشاطه المسرحي بشكل ضيّق، حتى التقى الوالي عبد اللطيف صبحي باشا عام 1872، الذي كلّفه بتشكيل فرقة، فأسس القباني خلال عامَي 1874 و1875 أول دارٍ للمسرح في دمشق. وبعد عروضٍ قليلةٍ، ثار عليه رجال الدين، بسبب العرض الذي قدّمه عن هارون الرشيد في أغلب الظن.
وصل مدحت باشا سنة 1878 كوالٍ جديدٍ على دمشق، وطلب من القباني إعادة تشكيل الفرقة، فاشتغل القباني على ذلك مرةً جديدةً لمدة 6 سنوات، ثم أسس مسرحه في "خان الجمرك". لكنّ فئةً جديدةً من الشيوخ ثارت عليه مرةً أخرى، وانتدبت وفداً ليذهب إلى القسطنطينية لمقابلة رجال السلطان، ما أدى إلى إيقاف القباني عن العمل.
أسس القباني خلال عامَي 1874 و1875 أول دارٍ للمسرح في دمشق. وبعد عروضٍ قليلةٍ، ثار عليه رجال الدين، بسبب العرض الذي قدّمه عن هارون الرشيد في أغلب الظن.
إثر ذلك، غادر أبو خليل القباني الشام إلى مصر، طمعاً بالحرية. لكن، لم تقف الحروب ضده هناك، إذ شنّت جريدة "الزمان" حملةً ضده سنة 1885، فغادر مصر في العام التالي عائداً إلى ولاية الشام، بحثاً عن فرصة جديدة، وتحديداً في مدينة بيروت.
قدّم أبو خليل القباني في بيروت طلباً لـ"مكتب الصدارة العظمى" في إسطنبول، من أجل "منحه رخصة إقامة تياترو، لعرضه (لعبيات) في اللغة العربية".
قوبل الطلب بالرفض، فرجع القباني إلى القاهرة، ثم إلى دمشق، عام 1890. أخيراً، ظهر في بيروت، عام 1892، مع فرقة كبيرة، استعداداً للتوجه إلى شيكاغو، والمشاركة في معرضها الدولي.
رحلة فرقة "مرسح العادات الشرقية" إلى أميركا
لم يكن مصطلح "مسرح" قد ظهر بعد في اللغة العربية، وكان مصطلح "مرسح" هو المتداول، كمُعَادل عربي للصيغة الإغريقية - اللاتينية "تياترو"، منذ استعاره مارون النقاش في العام 1847 من المصطلح الشعبي "المرزح" أو "المرسح"، المعروف في أرياف بلاد الشام بوصفه مكان تجمع الراقصين في حلقة الدبكة.
ألّف أبو خليل القباني فرقة "مرسح العادات الشرقية" في أواسط عام 1892، بحسب خلف، وضمّت 58 ممثلاً وعازفاً وراقصاً، غالبيتهم الساحقة من ولاية سوريا العثمانية (المتكونة من دمشق وبيروت، ومتصرفيتي جبل لبنان والقدس)، أبرزهم بالإضافة إلى القباني، الذي كان يبلغ حينها 51 عاماً، عثمان الشيخ صالح (52 عاماً) من دمشق الشهير بـ "الدرويش"، وهو من أعضاء فرقة القباني القدماء، والممثلة إستيرا حنائيل الحكيم (17 عاماً)، من دمشق، وكانت تُعرف بـ"طيرة الحكيم"، ومن المرجح أنَّ القباني كتب لها أغنيتَي "يا طيرة طيري يا حمامة"، و"عالهيلا عالهيلا يا ربعنا"، والمطربة والممثلة وعازفة القانون ملكة سرور (16 عاماً)، من بيروت، والممثلتين الشقيقتين بمبا وجميلة سعادة، من دمشق، وعازفة الإيقاع ماري لزمة، من دمشق، وإلياس قطان من بيت لحم، وزوجته ماري دلدوح (دحدوح)، والممثلة جنفياف ضومط (20 عاماً)، وهي سورية مقيمة في الإسكندرية، وشقيقها جوزيف ضومط.
وحُدِّد سقف الفرقة الفني بمجموعةٍ من الشروط الصارمة المتعلقة بموضوع "العادات والتقاليد"، وتمَّ تثبيت عدد من الشروط، تتعلق حتى باسم الشركة الممولة للمشروع، وهي "شركة العوائد الشرقية"، المسجَّلة في بيروت وشيكاغو باسم الصحافي البيروتي بطرس أنطونيوس وشركائه.
في 19 شباط/فبراير عام 1891، تلقّت السلطنة العثمانية دعوةً موقَّعةً من الرئيس الأميركي بنيامين هاريسون، للمشاركة في "معرض شيكاغو الكولومبي".
يسرد الباحث تيسير خلف في كتابه، الذي حاز "جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات 2017 - 2018"، تفاصيل هذه الرحلة كلها. فيشير بدايةً إلى أنّ الرحلة شكّلت فرصةً رائعةً لدراسة واحدةٍ من أندر تجارب التفاعل الثقافي المباشر بين منطقتي الشرق الأوسط وفهمها، بما تحمله من أبعادٍ تاريخيةٍ ودينيةٍ لها تأثيرات عميقة في الوجدان الغربي المسيحي، وبين الولايات المتحدة التي كانت تنظر إلى نفسها، منذ ذلك الوقت، بوصفها قمة هرم الحضارة الغربية.
رحلة القباني وفرقته إلى شيكاغو شكّلت فرصةً رائعةً لدراسة واحدةٍ من أندر تجارب التفاعل الثقافي المباشر بين منطقتي الشرق الأوسط وفهمها، بما تحمله من أبعادٍ تاريخيةٍ ودينيةٍ.
أما قبل بدء الرحلة، فقد تنازع أصحاب الشركات التجارية الخاصة على التعاقد مع "الباب العالي"، وأخيراً نشرت جريدة "كوكب أميركا" الصادرة في نيويورك باللغة العربية أنَّ "بطرس أفندي أنطونيوس" حصل على امتياز تمثيل "العادات الشرقية".
اكتملت استعدادات الفرقة في بيروت، وأعدّ القباني الممثلين ودرّبهم على أدوارهم. ثم سافروا إلى الإسكندرية، فجنوى في إيطاليا، لتصل السفينة إلى نيويورك في 17 نيسان/أبريل 1893، بعد 18 يوماً من السفر المتواصل.
بعد الوصول، ذكرت جريدة "كوكب أميركا" برنامج الفرقة الفني، على النحو التالي: "ستظهر أعمال هذه الشركة في القسم العثماني من المعرض الكولومبي، وهي تمثيل عوائد أهل الشرق من بدو وحضر في أعراسهم وولائمهم وأيام أفراحهم وأتراحهم وملابسهم، مع اختلاف بيئتهم، وتمثيل بعض الحوادث التاريخية، والروايات التي تتضمّن الأخبار عن رجالهم العظام الأقدمين، كهارون الرشيد وعنترة العبسي، ويتخلّل كل ما تقدّم محاورات وفكاهات أدبية، وأنغام موسيقيّة يُطرِب الآذان سماعها. وقد انتُخب بعض من العارفين بأنواع الملاعب، كالسيف والترس وعصا الشوم والحكم، والضاربين بالآلات الشرقية القديمة والحديثة، كالربابة والنقيرات والدائرة إلخ، ليمثّلوا بدورهم كلَّ ذلك".
وتضمّن البرنامج الفني المنوَّع للفرقة في المعرض 8 عروض، هي: "الدراما الكردية، الدراما القلمونية، المروءة والوفاء، عرس دمشقي، عنترة بن شداد، هارون الرشيد، العروس التركية، الابن الضال".
يسرد الباحث تيسير خلف تفاصيل كل عرض من هذه العروض، كما يذكر الانطباعات التي خلّفتها، والآراء والمراجعات التي تناولتها الصحافة الأميركية، التي أشادت بـ"الاحترافية العالية، والإبهار البصري، وتقنيات التمثيل والأداء، وعلاقة الخشبة بالصالة، وتوظيف الموسيقى درامياً، في مسرح أبي خليل القباني". ويذكر كذلك أنَّه، لأول مرةٍ في تاريخ المسرح العربي، تمَّ الفصل بشكلٍ واضحٍ بين المسؤول عن القضايا المالية والإدارية، وبين مدير متخصص بالتمثيل، وذلك عبر استخدام جريدة "كوكب أميركا" مصطلح "مدير الممثلين" أو "مدير التمثيل" لوصف وظيفة أبي خليل القباني في الفرقة.
لماذا حورِب أبي خليل القباني؟
على الرغم من أنَّ معظم التعليقات الصحفية على عروض الفرقة كانت ممتازةً، بل بلغت جودة العروض المقدَّمة حدَّ اتهام مؤلفين مسرحيين أميركيين أو بريطانيين بسرقة حكايات مسرحيات القباني، حدثت أمورٌ سلبيةٌ خلال العروض، فقد مورست ضغوطٌ على الممثلات للبس شالٍ من الموسلين، وكانت الرقابة من جانب الجهات الأميركية والعثمانية على حدٍّ سواء. كما حدثت إشكالاتٌ كثيرةٌ بسبب "مسألة الرقص الشرقي".
على الرغم من أنَّ معظم التعليقات الصحفية على عروض الفرقة كانت ممتازةً، بل بلغت جودة العروض المقدَّمة حدَّ اتهام مؤلفين مسرحيين أميركيين أو بريطانيين بسرقة حكايات مسرحيات القباني، حدثت أمورٌ سلبيةٌ خلال العروض.
إثر ذلك، وإثر مشاكل مختلفة، منها "افتراء بعض المفسدين بتورّط مرسح العادات الشرقية بمؤامرةٍ تستهدف مكانة السلطنة العثمانية"، اختصر أبو خليل القباني إقامته في شيكاغو من 6 أشهر إلى شهرين، ونشرت "كوكب أميركا" خبراً يُفيد بـ"مغادرة حضرة الفاضل الشيخ أبو خليل القباني المشهور بفن التمثيل، والذي كان استلم إدارة تمثيل العوائد الشرقية في المسرح الكولومبي، متوجِّهاً إلى لندن وباريس للسياحة، قبل أن يعود إلى أرض الوطن".
يجيبنا الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس عن هذا السؤال في ملاحقه لبياناته الشهيرة من أجل مسرح عربي جديد. إذ يقول إنَّ الهجوم على مؤسس "المدرسة الشامية"، التي قامت على دمج التمثيل بالغناء والرقص، يبدو غيرَ مفهومٍ. فالقيم والأفكار التي تنطوي عليها نصوصه لا تتصادم إلا في حدودٍ ثانوية مع القيم والأفكار التي كانت سائدة في المجتمع المحافظ والتقليدي، خلال النصف الثاني من القرن الـ19.
لم يمسَّ القباني السلطات بأيّ إساءة في نصوصه، بل على العكس، لقد اختتم جميع ما كتبه بأغنية تمجّد السلطان وتدعو له، باستثناء نصٍ واحدٍ، وقد يكون سقط ذلك منه سهواً.
كما يدعم هذا الرأي شاكر مصطفى في كتابه "تاريخ القصة في سوريا"، إذ يقول: "لم تكن الشخصيات التي يقدّمها مسرح القباني سوى شخصيات الأمراء والملوك، ولم تكن القيم والمفاهيم التي يعبّر عنها سوى قيم المجتمع الإقطاعي الوسيط، الذي كان لا يزال يعيش في ظلّ السلطان العثماني".
لماذا، إذاً، حورب الرجل، ورُفِعَت "مضبطة" في حقّه إلى الأستانة بيد الشيخ سعيد الغبرا، حملت تواقيع معظم أعيان دمشق من أجل منع القباني من العمل المسرحي؟
القيم والأفكار التي تنطوي عليها نصوص مسرح القباني لا تتصادم إلا في حدودٍ ثانوية مع القيم والأفكار التي كانت سائدة في المجتمع المحافظ والتقليدي. كما أنَّ القباني لم يمسَّ السلطات بأيّ إساءة في نصوصه، بل على العكس، لقد اختتم جميع ما كتبه بأغنية تمجّد السلطان وتدعو له.
أورد كامل الخلعي نص المضبطة في كتابه "الموسيقي الشرقي"، وجاء فيها: "إنّ وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية، وتراه على الناس خطباً جليلاً ورزءاً ثقيلاً، فيُمثَّل على مرأى من الناظرين ومسمع المتفرجين أحوال العشاق، وما يجدونه من اللذة في طيب الوصال بعد الفراق".
كما أورد إبراهيم الكيلاني بعض العبارات من استغاثة الشيخ سعيد الغبرا أمام السلطان، على النحو التالي: "أدركنا يا أمير المؤمنين، فإنّ الفسق والفجور قد تفشيا في الشام، فهُتِكت الأعراض وماتت الفضيلة ووُئِد الشرف، واختلطت النساء بالرجال".
عزا بعض الدارسين غضب بعض الشخصيات الدينية والاجتماعية إلى أسبابٍ أخلاقيةٍ، إذ أهاج المشايخ ما تضمّنته روايات القباني من مشاهد غرامية وحوارات حب. لكن، آنذاك، كانت خيمة "الكراكوز" منتشرةً بكثرة في دمشق، وقيل إنّ مدحت باشا حين وُلّي على المدينة قام بجولةٍ ليتفقد أحوالها، فلفتت نظره كثرة المقاهي التي تُمثّل فيها حكايات "خيمة كراكوز"، فانتقد وجهاء دمشق على هذا المستوى المنحط، ولامهم لإقبالهم على مشاهدة هذه المناظر المخجلة. فلماذا رُفِعت "المضبطة" في حق القباني فقط؟
يضيف إبراهيم الكيلاني ما يلي: "وكأنّ أبا خليل القباني بما فُطِر عليه من لطف الحس قد تنبّه إلى الخطر المحدق بحركته الفنية وهي ما تزال في مهدها، فعمد إلى استرضاء الزعماء المحافظين المتسلّطين فقاسمهم الربح، ويظهر أنّ نصيب أحدهم، الشيخ سعيد الغبرا الذي تسلّط على عقول العامة ببيانه ولسانه، كان ضئيلاً، فشدّ رحاله إلى الأستانة، عاصمة الخلافة، بعد أن أعجزته الحيلة عن محاربة القباني في بلده".
على الرغم من أنَّ معظم التعليقات الصحفية على عروض الفرقة كانت ممتازةً، بل بلغت جودة العروض المقدَّمة حدَّ اتهام مؤلفين مسرحيين أميركيين أو بريطانيين بسرقة حكايات مسرحيات القباني، حدثت أمورٌ سلبيةٌ خلال العروض.
إلا أنّ هذا السبب لا يكفي وحده، فقد وقّع على المضبطة نحو 29 شخصاً من أعيان دمشق. يذكر قسطندي رزق في كتابه "تاريخ الموسيقى الشرقية" السبب الذي فضّله المسرحي السوري سعد الله ونوس، حيث يقول رزق: "وما كادت الفرقة – أي فرقة القباني – تمثّل رواية أبي الحسن المغفل، حتى قام بعض المشايخ الرجعيين وقعدوا لظهور هارون الرشيد على المسرح، على شكل أبي الحسن المغفل، ورفعوا احتجاجاً بذلك إلى الحكومة العثمانية بالأستانة. فأُصدِرت إرادة شاهانية بمنع التمثيل العربي في سوريا".
كما أنّ عمل أبي خليل كان يُعَد "بدعة"، كما يورد الشيخ جميل الشطي في كتابه "أعيان دمشق في القرن الرابع عشر"، في معرض كلامه عن الغبرا، ورحيله إلى دار الأستانة "لرفع وإبطال كثيرٍ من تلك البدع التي ظهرت في دمشق، ولا سيّما تمثيل الروايات التي أضرّت في الأخلاق والأموال، وكان مؤسسها وحامل لوائها أبا خليل القباني".
يحدّد المسرحي الراحل سعد الله ونوس عوامل الخطر التي أحسّها رجال الدين في تجربة القباني، مبيّناً أنها تكمن في "الظاهرة المسرحية"، والتي تتلخّص في 3 جوانب، أوّلها أنّ ظهور المسرح كان جزءاً من حركة التنوير والنهضة، أما الثاني فيرتبط بالطابع الاجتماعي للظاهرة المسرحية، والثالث يتعلق بأخطر عناصر هذه الظاهرة، الذي يتمثّل في "التشخيص"، فالنظم الإقطاعية الدينية توظف شتى الوسائل لتأكيد الحدود الصارمة بين الطبقات وتكريسها، ومن أجل أن يظل هناك فضاء شاقولي يرفعها عالياً فوق الشعب. لذلك، أحسّت بخطورة "التشخيص".
ويضيف ونوس أنّه في جو عروض القباني، حيث العفوية والارتجال يبلغان أقصى حدودهما، يلعب أداء الممثل دوراً كبيراً في تعرية هؤلاء الذين يقفون في ذروة الهرم الاجتماعي، أو في تمزيق أقنعة القدسية والرهبة عن وجوههم، إذ كان الملوك والوزراء والأمراء يفقدون دلالاتهم السامية بالتقليد.
لذلك، قام رجال الدين ولم يقعدوا حين ظهر هارون الرشيد على المسرح، ولذلك اتّهموا تجربة القباني بأنها "بدعة".
أوضح سعد الله ونوس في تفسيره لمحاربة القباني ومسرحه، أنّه في جو عروض القباني، حيث العفوية والارتجال يبلغان أقصى حدودهما، يلعب أداء الممثل دوراً كبيراً في تعرية هؤلاء الذين يقفون في ذروة الهرم الاجتماعي، أو في تمزيق أقنعة القدسية والرهبة عن وجوههم.
وقد اكتشفت الكنيسة الغربية خطر هذه الظاهرة قبل رجال الدين الإسلامي، حين قاومت فرق المسرح المرتجل في إيطاليا. فالتشخيص ينزع عن السادة هالة القدسية، ويُنزلهم من علوّهم محوِّلاً إياهم إلى أشخاص حاضرين بين المتفرجين. وزلّةٌ واحدةٌ من الممثل يمكن أن تجعل الملك مضحكاً، والأمير سخيفاً. وحين يضحك المتفرج يسقط في أعماقه جدارٌ من الخوف، ثم تبدأ التساؤلات.
أما على الصعيد الشعبي، فلم يقف الجمهور الدمشقي ضد القباني، إذ ذكر محمد كرد علي في كتابه "خطط الشام" أنّ الجمهور الدمشقي "لم يُفاجأ بهذا العمل الفني الجريء (مسرحية الملك وضّاح)، بقدر ما أُعجِب بهذه الكوميضة (الكوميديا) المحليّة، يقدّمها له مسلمٌ عريق".
في اليوم الأخير من سنة 1902، توفي أبو خليل القباني في منزله الدمشقي (ترد سنة 1903 كتاريخ لوفاته)، بسبب إصابته بوباء الطاعون، الذي عمّ البلاد ذلك الحين، وقد بقي متكتماً على خبر رحلته إلى شيكاغو مدة 9 سنوات، إلى أن نشر تلاميذه في ما بعد أخبارها في تراجمهم عنه، وأبرزهم كامل الخلعي.