هل يطوي بوتين صفحة العالم الأميركي؟
يمكن الحديث عن الموقف الروسي في هذه اللحظة، والذي ينطلق في إطار الأزمة الأوكرانية من 3 محدِّدات رئيسة.
قد يكون اعتراف موسكو باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، والذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو التفصيل الأقل أهمية في خطابه المطوَّل والموجَّه إلى الشعب الروسي. أعاد بوتين، وفق سردية متماسكة، تعريف الأزمة، ملقياً الكرة مجدداً عبر الحدود، من دون أن ينسى الإشارة إلى فصل جديد في النظام العالمي.
ركزت أغلبية التعليقات، طوال الفترة السابقة، على أوكرانيا، في إطار الحشد العسكري الروسي وما يمثله من تهديد لكييف، بينما صوّرت الدعاية الأميركية الحدث على أنه وُلِد من العدم، وأن المشكلة الروسية هي في وجود أوكرانيا ديمقراطية عند حدودها. لذا، تريد موسكو فرض نفوذها على السياسة الخارجية لكييف.
يُذكّر ذلك مجدداً بالنهج الأميركي التقليدي؛ ذلك الذي يقوم على التعامل، وفق منطق فقدان الذاكرة التاريخي، بحيث تُفْصَل الأحداث عن سياقها وعن كل ما أدى إلى الوصول إليها. في هذا السياق، تتجاهل واشنطن حقيقة، مفادها أن الاعتراضات الروسية على توسع الناتو سبقت وصول بوتين إلى الرئاسة أول مرة عام 2000.
وكما أوضح بوتين، طوال 65 دقيقة، فإن جذور الأزمة تعود إلى التسويات غير المحسومة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة؛ تلك الترتيبات التي تمت بينما كانت روسيا، كما يصفها أحد الكتّاب الأميركيين، جاثية على ركبتيها، تُباع بزّات ضبّاط جيشها مع الأوسمة فوق أرصفة موسكو بثمن بخس.
لم تكن الولايات المتحدة حينها في حاجة إلى المناورة. اختارت إدارة بيل كلينتون الاستمرار في تمدد الناتو شرقاً. لم تكن فكرة إيقاف ذلك واردة. فإلى جانب حسابات كلينتون الداخلية، كان ذلك ضرورياً لاستمرار القيادة الأميركية العالمية، إذ زوّدت فكرة الحماية الأميركية لأوروبا الولاياتِ المتحدةَ بنفوذ هائل في مراكز القوة الاقتصادية العالمية، في تلك اللحظة.
في موسكو المنهَكة، كان الأمر مثيراً للاستغراب. صُمّم الناتو أساساً من أجل المحافظة على أمن أوروبا الغربية، ومواجهة حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفياتي. ومع سقوط جدار برلين، لم يعد هناك من مبرّر لاستمرار التوسع.
كانت روسيا، على عكس اليوم، أضعفَ من أن يُسمع صوتها. وعلى وقع حاجتها إلى مليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي، لم تمتلك موسكو كثيراً من الخيارات، فوقّعت اتفاقية العلاقات المتبادلة مع الناتو عام 1997.
بسهولة، تجاهلت واشنطن اعتراضات يلتسين على تمدُّد الناتو شرقاً، والذي مثّل تراجعاً أميركياً عن الضمانات الشفوية التي أُعطيت لغورباتشوف، وتجاهلت الولايات المتحدة أيضاً الأصوات الداخلية التي اعترضت على التوسع، داعيةً إلى استغلال الفرصة التاريخية في إنشاء نظام أوروبي جديد يشمل روسيا. ونتيجة ذلك، استمر منطق الحرب الباردة أميركياً. والحلف، الذي ضم 16عضواً في ذروة الحرب الباردة، أصبح يضم 30 دولة.
لكنّ هذا السياق الطويل اتَّخذ انعطافات مهمة في الأعوام الأخيرة. حدود الناتو باتت تغازل جورجيا وأوكرانيا. وبالرغم من انفتاح موسكو على الحوار مع كييف، فإن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، اتَّخذ خطوات تشي بخيار استراتيجي، يقترب على نحو لصيق من الغرب، ويعلن ما يشبه حالة العداء المتصاعدة مع روسيا، بحيث تتحول أوكرانيا، بصورة متدرجة، إلى جارٍ مستنزِف وخَطِر.
بناءً على كل ذلك، يمكن الحديث عن الموقف الروسي في هذه اللحظة، والذي ينطلق في إطار الأزمة الأوكرانية من 3 محدِّدات رئيسة:
1ـ خطاب بوتين الافتتاحي، خلال اجتماع مجلس الأمن الروسي، في أيار/مايو 2021، والذي أشار فيه إلى أن أوكرانيا تتحول "ببطء، لكن بثبات، إلى نقيض معادٍ لروسيا".
2ـ كلمة بوتين خلال الاجتماع الموسَّع لمجلس وزارة الخارجية الروسية في الـ 18 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، والذي أكد فيه أنه لا يؤمن بالضمانات الأمنية الأميركية، وأن واشنطن تنسحب ببساطة من المعاهدات مع تفسير، أو من دونه.
3ـ المقال الشديد اللهجة للرئيس السابق دميتري ميدفيديف، في صحيفة "كومرسانت"، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، والذي وصف فيه القيادة الأوكرانية بأنها "تابعة"، وأن إجراء مزيد من المحادثات مع كييف لا طائل فيه.
وفقاً للمحدِّدات السابقة، يمكن تلخيص الموقف الروسي بالقول إن موسكو تعتبر الحد من المخاطر التي تشكّلها أوكرانيا بوابة لمراجعة النظام الأمني في أوروبا في فترة ما بعد الحرب الباردة. وفي هذا السياق، لم تعد روسيا تقبل المسار الذي تتخذه كييف في إطار تحولها التدريجي إلى دولة معادية، بالتوازي مع عدم الثقة الروسية بالالتزام الأميركي بشأن أي إطار دبلوماسي لحل الأزمة.
وانطلاقاً من هذا الموقف، وبالنظر إلى المعطيات التي قدّمها بوتين في خطابه الأخير، يمكن تقييم مآلات الأزمة الحالية، والتي تتراوح سيناريوهاتها بين أقصى التصعيد وأقصى التسوية، أو المراوحة بينهما.
استمرار التوتّر الحادّ
كثيرة هي الحسابات لدى جميع الأطراف: تُهدَّد روسيا بعقوبات قصوى، يقلِّل بوتين أهميتَها، وهو الذي استبق خطواته بتعزيز محور بكين – موسكو، بينما ترفض الولايات المتحدة الاستجابة للمطالب الروسية، في موازاة بحثها عن بدائل في كل الاتِّجاهات من أجل ضمان الحشد الأوروبي.
تفرض هذه المراوحة احتمال امتداد الأزمة من دون تحرّك، لكن ذلك يبدو مستنزِفاً للجميع، بينما تراقب موسكو كمية الحركة عند الجانب الآخر من الحدود، والتي يمكن أن تصل إلى مرحلة يتسلّح فيها نهج كييف العدواني بأسلحة استراتيجية، ويرفع سقف التفاوض الغربي مع روسيا.
انفراج الأزمة (تسوية موقتة أَم بعيدة المدى)
بالنسبة إلى روسيا، لم تعد التهدئة هدفاً. يبحث بوتين عن حل نهائي للمشكلة الأوكرانية، وهو يدرك تماماً أن أي اتفاق لا يتضمن الضمانات المطلوبة يعني تأجيلاً للأزمة وإعادة تفجُّرها، وفق معطيات جديدة، يصبح معها الحل أكثر تكلفة.
في السياق، يدرك الرئيس الروسي أيضاً أنه لا يمكن ضمان التزام واشنطن الاتفاقيات البعيدة المدى، وأن أياً من الهيئات التشريعية في الولايات المتحدة أو أوروبا لن تمرر اتفاقية ملزمة قانونياً مع روسيا، ناهيك بالقناعة الروسية بانعدام الثقة بقيادات كييف، حتى المستقبليين منهم.
سيناريو التصعيد العسكري (واسع أَم محدود)
تريد موسكو إنهاء التهديد الذي يشكّله الناتو عبر كييف. ومن خلال أوكرانيا تعمل روسيا على إحداث انفصال زمني عن تسعينيات القرن العشرين، تدفن من خلاله نظام ما بعد الحرب الباردة، في كل تفاصيله.
وبعد الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، أصبح الحديث عن الخيار العسكري احتمالاً معقولاً بالنسبة إلى كثيرين، على أن ذلك يبقى نسبياً لناحية اتساعه ومداه ونوعيته.
يطرح كثير من الخبراء خيارات متعددة بشأن ماهية التصعيد؛ بعبارة أدق: مستويات متعددة من القوة التي يمكن لموسكو أن توظّفها. ويربط هؤلاء هذه المستويات بمستوى الأهداف الروسية: "كلما كان الهدف أكثر طموحاً، زادت القوة اللازمة لتغيير حسابات كييف وحلف الناتو للتكاليف والفوائد".
بالحديث عن الأهداف، يمكن القول، ختاماً، إن اللحظة الأوكرانية تمثل فرصة في إعادة كتابة تاريخ ما بعد الحرب الباردة. تغادر روسيا الركام السوفياتي، ويعلن بوتين رسمياً نهاية "لحظة الأحادية القطبية"، والتي احتفل بها تشارلز كراوثامر في "الواشنطن بوست" عام 1990، معتبراً أن "الشرق استقال من اللعبة".
وفقاً لفيونا هيل، مسؤولة الشؤون الروسية السابقة في الاستخبارات الأميركية، فإن ما يسعى إليه بوتين هو أن "تشعر الولايات المتحدة بمرارة الدواء الذي تجرَّعته روسيا خلال حقبة التسعينيات، فواشنطن ضعيفة بشدة في الجبهة الداخلية، وفي موقف متراجع في الخارج. إنه يعتقد أيضاً أن حلف الناتو ليس أكثر من امتداد للولايات المتحدة. لذا، عندما يتعلق الأمر بالحلف، تكون كل تحركات موسكو موجهة نحو واشنطن".