هل تدفع الضفة الغربية الثمن؟

ما يحدث في الضفة اليوم، استكمال للأفكار والمخطّطات التي قامت عليها الفكرة الصهيونية أصلاً، فالأرض التي تبيّن أنّ لها شعباً، بل هو شعب عنيد ومقاتل، لا بدّ من إفراغها من سكانها، سواء بالإبادة أو التهجير.

0:00
  • عرف العدو وداعموه أنّ المقاومة قادرة على الصمود والبقاء رغم المجازر وفداحة الخسائر.
    عرف العدو وداعموه أنّ المقاومة قادرة على الصمود والبقاء رغم المجازر وفداحة الخسائر.

لم يكد وقف إطلاق النار في غزّة يبدأ في السريان، حتى بدأ الشاباك و"الجيش" الصهيوني عملية واسعة في شمال الضفة الغربية، العملية التي أطلق عليها اسم "الأسوار الحديدية" وصفها الإعلاميون والضباط الصهاينة بأنها "حرب غير مسبوقة في الضفة"، وأنهم سيقومون بتوسيع مساحتها الجغرافية بحسب الحاجة، لتشمل الضفة الغربية كاملة.

التحليل الأكثر شيوعاً يربط هذه العملية بمحاولة نتنياهو الحفاظ على تماسك حكومته، وأنّ العملية ليست سوى رشوة مقدّمة للمتطرّفين داخل الحكومة وعلى رأسهم سموتريتش، ليوافق على البقاء في الحكومة من جهة، وكذلك الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار الذي هدّد بالانسحاب من الحكومة حال البدء بتنفيذه.

رغم أنّ هذا الرأي يمتلك بعض الصحة، إلا أنه يشبه الرأي القائل بأنّ الحرب على غزّة محاولة من نتنياهو للهرب من المحاكمة التي تنتظره حال سقوط حكومته. كلا السيناريوهين يغفل بشكل متعمّد استراتيجية الكيان الصهيوني القائمة على ضمّ الضفة وتهجير أكبر عدد من سكانها. معرفة هذه الاستراتيجية لا تحتاج إلى تحليل وخبرة سياسيّين، فتكفي متابعة اللقاءات والتصريحات الإعلامية لقادة العدو لتسمع وترى الإعلان عنها علناً ومدعوماً بالخرائط.

ما يحدث في الضفة اليوم، استكمال للأفكار والمخطّطات التي قامت عليها الفكرة الصهيونية أصلاً، فالأرض التي تبيّن أنّ لها شعباً، بل هو شعب عنيد ومقاتل، لا بدّ من إفراغها من سكانها، سواء بالإبادة أو التهجير.

الفرصة السانحة، كما يعتقد قادة العدو، مرتبطة بالضربات القاسية التي تلقّاها محور المقاومة، سواء باستشهاد قادته، أو غياب سوريا كحلقة وصل ورافعة لهذا المحور، وكذلك وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والذي يبدو أن إدارته المشبعة بالعنصريّين والمتطرّفين البيض لن تمانع في ضمّ "إسرائيل" أجزاء جديدة من أراضي الضفة الغربية، خاصة تلك الموسومة بالقسم (C) في اتفاقيات أوسلو سيّئة الصيت. 

تستمدّ استراتيجية الكيان الصهيوني منطقها من الأساطير التوراتية، لكنها مرتبطة عملياً باستراتيجيات الاستعمار في منطقتنا، والقائمة على التلاعب بالجغرافيا والديمغرافيا بما يحقّق مصالحه. لا بدّ أن نلاحظ غياب الحديث عن قيام "إسرائيل" باحتلال أراضٍ سورية، عن خطابات الرئيس الأميركي الجديد الذي لم يغفل الكثير من التفاصيل الصغيرة مثل رفع العقوبات عن المستوطنين الصهاينة الذين ارتكبوا جرائم في الضفة الغربية. 

التوسّع الإسرائيلي في الجغرافيا السورية، والخروقات لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان ليست حوادث معزولة، بل هي في صلب السياسة الاستعمارية، والهدف منها تطويع المقاومة وفرض السطوة الصهيونية على المنطقة بما فيها الدول التي ترتبط باتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني كالأردن.

في هذا السياق لن نستغرب أن يخرج علينا بعض السياسيين الرسميين العرب، وأبواقهم الإعلامية محمّلين المقاومة مسؤولية ما يحدث، واعتبار طوفان الأقصى الشرارة التي أطلقت عنان الوحش الصهيوني، في خطاب عن المغامرة يشبه ذلك الخطاب الذي سمعناه إبّان حرب تموز 2006 في لبنان. 

بعيداً عن ضحالة هذا التحليل الذي تطرب له الأنظمة العربية ومثقّفوها من الليبراليين، فإنّ ما يحدث سواء بالحجم أو التوقيت يشير إلى أنّ هذا المخطّط الذي انطلق عام 2011 ما كان ليحقّق أهدافه مبكراً لولا تصدّي المقاومة له في أكثر من محطة توّجتها عملية طوفان الأقصى التي لقّنت العدو وحلفاءه أكثر من درس.

من ناحية عرف العدو وداعموه أنّ المقاومة قادرة على الصمود والبقاء رغم المجازر وفداحة الخسائر، وقادرة على تكبيد العدو خسائر مادية ومعنوية كبيرة. 

إذ تكفي نظرة سريعة على ما حدث في شوارع العالم، وعدد المسؤولين الصهاينة الذين اضطروا للاستقالة، وشوارع المدن الفلسطينية المحتلة التي اجتاحتها تظاهرات أهالي الأسرى الصهاينة، لنعلم أنّ ما حقّقته المقاومة من إنجاز يستحقّ كلّ هذه التضحيات. الدرس الثاني كان لعرب الاتفاقيات الإبراهيمية، من أنّ أوهامهم بإنهاء القضية الفلسطينية، واستكانة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية لمخطّطاتهم ليست سوى أحلام، تستطيع المقاومة تحويلها إلى كوابيس في كلّ لحظة.

رغم القناعة الراسخة من أنّ المقاومة ستبقى حيّة بغض النظر عن النتائج الميدانية لعملية الأسوار الحديدية، إلا أنّ الوضع في الضفة الغربية يختلف جذرياً عنه في غزّة. تسليح المقاومة في الضفة بدائي بسبب محدودية القدرة على إدخال الأسلحة، فمحور المقاومة لم يمتلك الفرصة لتطوير طرق لإدخال الأسلحة إلى الضفة كما فعل مع غزّة.

التنسيق الأمني مع "جيش" الاحتلال الذي تمارسه سلطة رام الله، يقدّم معلومات أمنية مهمة تساعد العدو على تحقيق أهدافه، بل وتنوب عنه أحياناً سواء من خلال حملتها على مخيم جنين قبل العملية الصهيونية، أو بقيامها باعتقال المقاومين الجرحى، كما فعلت مع القيادي في كتيبة جنين مسلم مصاروة الذي اعتقلته من داخل أحد المستشفيات بعد إصابته بجراح خلال التصدّي للعملية الصهيونية.

يسعى الكيان الصهيوني إلى تحويل المدن والمخيمات الفلسطينية في الضفة إلى معازل محاصرة، وهذا ما ظهر بوضوح برفع عدد الحواجز العسكرية في الضفة من 260 حاجزاً إلى أكثر من 800 حاجز، بهدف التضييق على السكان خاصة وهي يعلم أنّ مئات الآلاف من الفلسطينيين يحملون جوازات سفر أردنية، ولهم امتدادات عائلية واقتصادية داخل الأردن، ويمكن للتضييق الشديد والترهيب أن يدفعهم لهجرة منازلهم في الضفة والرحيل إلى الأردن. 

بالنسبة لمدمني الهزيمة، يبدو هذا السيناريو قابلاً للتحقيق ويطالبون بالذهاب سريعاً نحو السلام مع العدو لتجنّبه، أو على الأقلّ التخفيف من آثاره. أما نحن في جمهور المقاومة فقد تعلّمنا من مقاومينا درساً لا ننساه، من أنّ العدو مهما أظهر قوته وبطشه ليفرض علينا وعي الهزيمة والقبول بها، إلا أنّ الفعل المقاوم استطاع دائماً اجتراح المعجزات ونقلنا إلى الأمام في مواجهة العدو، والتقدّم خطوة جديدة نحو التحرير و"للحلم بقية".