غزة وتحدّي إعادة الإعمار!

مطلوب من الجميع، ولا سيّما من الدول العربية والإسلامية الشقيقة، ومن كلّ أحرار العالم أن يتخلّوا عن البيروقراطية الهدّامة، وأن يكسروا الحواجز والحدود التي وضعها الاحتلال، وأن يبادروا لنصرة غزة.

  • بظرة متأنّية على الدمار يمكن لنا أن نكتشف حجم ما كان يخطّط له الاحتلال في قطاع غزة.
    بظرة متأنّية على الدمار يمكن لنا أن نكتشف حجم ما كان يخطّط له الاحتلال في قطاع غزة.

لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تصف الكلمات مهما كانت بلاغتها حجم الدمار والخراب الهائلين اللذين أحدثهما الاحتلال المجرم في قطاع غزة، إذ كشف توقّف الحرب العدوانية على القطاع الصغير والمحاصر منذ نحو ثمانية عشر عاماً عن حجم الدمار الهائل وغير المسبوق، والذي لا يمكن وصفه أو تقديم صورة دقيقة بشأنه إلا بعد وقت طويل، وهو يشبه إلى حدٍ بعيد تلك المشاهد التي كنا نراها في الحرب العالمية الثانية، حيث المدن المدمّرة عن بكرة أبيها، والحرق والهدم الكلّي لآلاف البيوت والمصانع والمنشآت الخدمية، وتدمير البنى التحتية من شوارع وشبكات كهرباء ومياه صرف صحي، بل وأكثر من ذلك، حيث قام الاحتلال بتدمير ممنهج لكلّ المؤسسات الصحية والتعليمية والبلديات والشركات الخاصة صغيرها وكبيرها. 

هذا بالإضافة إلى محو مناطق عمرانية كاملة عن الخريطة بشكل نهائي، كما حدث في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا شمال القطاع، وهو الأمر الذي انسحب على مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، والتي تعرّضت هي الأخرى لدمار لا يُوصف، وكأنّ زلزلاً مدمّراً قد ضربها بشدّة، وحوّل بيوتها الجميلة والعريقة إلى كومة من الركام.

بنظرة متأنّية يمكن لنا أن نكتشف حجم ما كان يخطّط له الاحتلال في قطاع غزة، ولا سيّما على صعيد سياسة التهجير القسري للسكّان، والتي أعلن الكثير من قادة الكيان الصهيوني عنها بشكل علني، ودعوا إلى تطبيقها بالقوة لتفريع أكثر من نصف القطاع من ساكنيه، وتحويل ما يقارب الأربعين بالمئة من أراضيه إلى مناطق عازلة، وخصوصاً تلك الواقعة على امتداد الحدود مع أراضينا المحتلة عام 48 بعمق يتراوح ما بين نصف كيلومتر إلى كيلومترين، والتي تبدأ من رفح جنوباً، وصولاً إلى بيت حانون أقصى شمال شرق القطاع، ثم تتجه غرباً باتجاه شاطئ البحر شمال مدينة بيت لاهيا. 

هذه المساحة التي كانت تحتوي سابقاً على آلاف المنازل والمزارع والمنشآت تحوّلت بفعل العدوان إلى مناطق قاحلة، ولم يبقَ فيها أيّ صورة من صور الحياة، وباتت عبارة عن كثبان رملية، وأكوام متناثرة من الركام، يعتقد الناظر إليها أنها لم تكن في يوم ما تضجّ بالحياة، أو أنّ عشرات الآلاف من السكّان كانوا يعيشون فيها.

على كل حال، وحتى لا نغرق في التفاصيل الهائلة لحجم الدمار في القطاع المنكوب، والتي ستكشف الأيام المقبلة عن المزيد منه بعد انسحاب الاحتلال من محور نتساريم وسط القطاع، والذي التهم هو الآخر في جزئه الشمالي مساحات واسعة من أراضي مدينة غزة، ومثلها أو أكثر من النصيرات والبريج في جزئه الجنوبي، بالإضافة إلى منطقة الشريط الحدودي مع مصر المعروفة بمحور صلاح الدين "فيلادلفيا". 

نودّ أن نشير إلى مجموعة من الإجراءات الواجب اتخاذها على وجه السرعة، ولا سيّما من الدول التي تعهّدت بإعادة الإعمار، وذلك من أجل التخفيف عن المواطنين المفجوعين من حجم الخراب والدمار، والذين بات مئات الآلاف منهم من دون مأوى، وهم في الأساس لا يملكون الإمكانيات المادية التي يمكن أن تعينهم على تأمين سكن ما حتى لو كان متواضعاً ومؤقتاً، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أنّ الإسراع في تأمين أماكن سكن للمواطنين بغض النظر عن نوعها وشكلها وحجمها ستخفّف عنهم الكثير من المشكلات والصعوبات، وستُسقط إلى حدٍ بعيد هدف الاحتلال الرئيسي من وراء هذا التدمير، وهو تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للسكن، بما يرغم الناس على "الهجرة الطوعيّة" كما وصفها وزير المالية الصهيوني المتطرّف بتسلئيل سموتريتش.

أولى هذه الإجراءات تتعلّق بصرف تعويضات مالية عاجلة لكلّ العوائل المتضرّرة، بما يعينهم على شراء بعض الحاجيات الضرورية والتي لا غنى عنها، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ معظم المواطنين إن لم يكن جميعهم قد خرجوا من بيوتهم على عجل، ومن دون أن يأخذوا معهم أيّاً من المستلزمات الخاصة بالنوم والإعاشة وتحضير الطعام والتدفئة وغير ذلك من الضروريات. 

وبالتالي وفي ضوء توقّف الأعمال في القطاع منذ بدء الحرب، وافتقاد معظم السكّان لأيّ نوع من أنواع الدخل المالي الذي قد يساعدهم على مواجهة الظروف القاهرة التي يمرّون بها، يجعل من صرف هذه التعويضات أمراً ملحّاً وفي غاية الأهمية، مع التنويه هنا إلى أنّ القيام بذلك في حال توفّرت الرغبة والقدرة متاح وممكن، في ضوء وجود قوائم جاهزة بأسماء واحتياجات السكّان، نتيجة جهود محلّية حثيثة قامت بها بعض الجهات لإحصاء من تنطبق عليهم الشروط والمواصفات المتعلّقة بهذا الشأن.

ثاني الإجراءات هو البدء في عملية رفع الأنقاض وإن بشكل مبدئي، حيث يشكّل هذا الأمر تحديّاً كبيراً نتيجة الحجم الهائل من البيوت والمنشآت المدمّرة، ولا سيّما فيما يتعلّق بالبنايات المرتفعة، والتي أدّى انهيارها بشكل كلّي أو جزئي إلى إغلاقات كبيرة في الشوارع، وإلى تشكيل خطر داهم على المواطنين، ولا سيّما أنّ الاحتلال عمد في كثير من الحالات إلى تدمير جزئي لهذه البنايات، وهو ما يزيد من خطر سقوط الجزء المتبقّي على رؤوس المواطنين، الذين لم يجدوا في كثير من الأحيان سوى أنقاض هذه البنايات لاستخدامها كمساكن مؤقتة، ونتيجة أيضاً لوجودها في مناطق تقع في قلب المدن، وهي المناطق التي تشهد ازدحاماً كثيفاً بسبب وجود بعض الأسواق فيها، أو وقوعها على طرق مركزيّة توصل إلى ما تبقّى من مؤسسات صحية وخدمية.

هذا الأمر يحتاج من دون أدنى شكّ إلى إمكانيات كبيرة، خصوصاً على صعيد الآلات اللازمة للهدم والإزالة، والتي لا يكاد يتوفّر منها في قطاع غزة ما نسبته أقلّ من واحد بالمئة، وحتى تلك الموجودة لا تصلح للتعامل مع البنايات المرتفعة، أو الأبراج السكنية ذات الطوابق المتعدّدة.

الإجراء الثالث يتعلّق بتجهيز وإنشاء مناطق صالحة للسكن المؤقّت على وجه السرعة، خصوصاً في مدينة غزة ومحافظة الشمال ونحن على موعد مع عودة النازحين إلى مناطق سكناهم عمّا قريب، وهم في معظمهم سيكونون بلا مأوى، وهذا ما سيفاقم من شدّة الأزمة في هذا الخصوص، وسيشكّل ضغطاً إضافياً على المواطنين المتبقّين في هذه المناطق، والذين تحمّلوا خلال الشهور الماضية عبء الحرب الرئيسي بعد أن رفضوا الخروج إلى مناطق الجنوب، وهو ما ساهم بشكل أساسي في إفشال سياسة التهجير، وإسقاط خطة الجنرالات.

مطلوب وبشكل عاجل لا يقبل التأخير إدخال مئات الآلاف من الخيم الصالحة للسكن، والكرفانات التي تتّسع للعوائل الكبيرة، بحيث يمكن أن تؤوي عشرات آلاف المواطنين ولا سيّما ونحن في فصل الشتاء، وهو ما يحتاج لسرعة أكبر في التنفيذ.

رابع الإجراءات هو إدخال موادّ البناء اللازمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البيوت التي يمكن إعادة ترميمها، والتي أصيبت بضرر جزئي بليغ، وهذا الأمر يخفّف كثيراً من حجم الأزمة، ويمكن أن يكون حلّاً صالحاً لإيواء آلاف المواطنين، وقد سبق أن جرى اعتماد هذا الأسلوب بعد عدوان 2014، والذي شهد هو الآخر تدمير عدد كبير من البيوت والأبراج السكنية.

حتى كتابة هذا المقال، وعلى الرغم من كلّ الوعود التي سمعناها من بعض الدول العربية والإسلامية، ومن مؤسسات الإغاثة الدولية المختلفة، لم نشهد أيّ خطوة عملية قد تشير إلى وجود نوايا حقيقية للبدء في تنفيذ الإجراءات المُشار إليها أعلاه أو حتى جزء منها، وبحسب ما أخبرني مسؤول كبير في إحدى المنظّمات الإغاثية الدولية فإنّ الوعود كثيرة، إلا أنه لا توجد حتى الآن ملامح واضحة تخصّ التوقيت والإجراءات التنفيذية، وهو ما يفاقم من أزمة المواطنين، ويعزّز مخاوفهم من أن تطول معاناتهم إلى أمدٍ بعيد، خصوصاً وأنّ العدو الصهيوني ماضٍ على ما يبدو في سياسته الهادفة للتضييق على المواطنين، والتسبّب لهم بمزيد من الأذى والألم.

مطلوب من الجميع، ولا سيّما من الدول العربية والإسلامية الشقيقة، ومن كلّ أحرار العالم أن يتخلّوا عن البيروقراطية الهدّامة، وأن يكسروا الحواجز والحدود التي وضعها الاحتلال، وأن يبادروا لنصرة غزة التي خذلوها في كثير من الأحيان، وأن يعوّضوا ذلك بالدعم والإسناد المطلوبين لإعادة الإعمار، أو على أقلّ تقدير مساعدة الناس للبقاء على قيد الحياة، وتوفير الحد الأدنى من سبل العيش الكريم الذي يفتقده معظم أهالي القطاع، الذين عانوا خلال الخمسة عشر شهراً الماضية ظروفاً استثنائية لم يسبق لها مثيل.

ختاماً من المهم أن ننظر إلى التجربة اللبنانية ونستفيد منها، ولا سيما من تجربة حزب الله في هذا الشأن، حيث قام على وجه السرعة بعمليات إحصاء لكلّ المنشآت المدمّرة، وصرف تعويضات مالية مناسبة لكلّ العوائل المتضرّرة، ولم ينتظر الدولة أو المؤسسات الدولية لتقوم بذلك. 

في غزة ربما تكون الظروف مختلفة نوعاً ما، بسبب الحصار ووجود الاحتلال وسيطرته على المعابر وحركة البضائع والأموال، إلا أنّ مزيداً من العمل في حال توفّرت الرغبة الصادقة يمكن أن يساهم في التخفيف عن الناس، ويمكن أن يبلسم بعضاً من جراحاتهم التي ما زالت تنزف حتى الآن.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.