بعد 471 يوماً من العدوان الإسرائيلي... هل تمّ ترميم الردع؟
السقوف المرتفعة التي سوّق لها نتنياهو في بداية العدوان لم تكن تستهدف مجرّد الانتقام من المقاومة نتيجة ما ألحقته بـ "إسرائيل" من ضرر، وإنما كانت تستهدف بالدرجة الأولى توجيه رسالة للبيئة المجتمعية الإسرائيلية.
بعيداً عن سرديات النصر التي يروّج لها المستوى السياسي الإسرائيلي حيث يجهد للتسويق لتوقّف القتال في غزة ولبنان على أنه لا يتعارض مع مهمّة تحقيق الأهداف التي أعلنها رئيس حكومة الكيان، تظهر ضرورة البحث والتدقيق في الواقع الإسرائيلي الحالي على مستوياته الأمنية والسياسية والمجتمعية كافة لتقدير مدى نجاح الكيان في مهمّة ترميم الردع التي كانت بمثابة البوصلة التي حكمت السلوك الإسرائيلي، وشكّلت المرتكز الذي استند إليه رئيس الحكومة في تحديده لأهداف العدوان الذي طال غزة ولبنان طيلة أكثر من 15 شهراً.
ففي إطار تعريف المفهوم الإسرائيلي للردع، فإنه يستهدف محاولة كيّ وعي الأعداء من خلال تأكيد التفوّق العسكري والتقني، ثمّ القدرة على الحسم والردع وعدم التردّد في احتلال أراضي الخصم وتدمير قدراته مع عدم الاكتراث للرأي العام العالمي.
بالتوازي، يركّز المستويان الأمني والعسكري على أنّ هذا المفهوم يستهدف إقناع البيئة المجتمعية بقدرتهما على مواجهة الأخطار الطارئة بسرعة وفعّالية، حيث إنّ العامل النفسي الذي يربط المستوطنين بأرض فلسطين لا يتميّز بعقيدة صلبة تتجذّر أصولها في ما يشبه الانتماء الوطني، وإنما يشبه في واقعه مفهوم الزبائنية التي تحتاج إلى الجذب والإقناع المرتكز على المصالح والمزايا.
وعليه، فالسقوف المرتفعة التي سوّق لها بنيامين نتنياهو في بداية العدوان لم تكن تستهدف مجرّد الانتقام من المقاومة نتيجة ما ألحقته بـ "إسرائيل" من ضرر وخسائر بشرية، وإنما كانت تستهدف بالدرجة الأولى توجيه رسالة للبيئة المجتمعية الإسرائيلية بقدرة مؤسسات الكيان و"جيشه" على ضمان بقاء الظروف التي كانت سبباً لتوجّه المستوطنين نحو فلسطين.
وعليه، عمد نتنياهو عند تحديد أهدافه في المرحلة التي تلت 7 أكتوبر إلى توصيف خطر طوفان الأقصى ووحدة الساحات على أنه وجوديّ يهدّد بإمكانية سقوط "الدولة". وعليه، سار باتجاه التسويق لأهداف لم تقف عند حدود استعادة الأسرى وكسر عزيمة المقاومة، وإنما تعدّاها ليتحدّث عن القضاء على حماس واستئصال حزب الله وصولاً إلى عزمه على تغيير الواقع الإسرائيلي والإقليمي.
لقد تحدّث صراحة عن مخاض لولادة شرق أوسط إسرائيلي سترتسم معالم بداياته على المستوى الداخلي الإسرائيلي من خلال احتلال قطاع غزة، وعلى المستوى الإقليمي من خلال السيطرة على لبنان والتدخّل في اختيار رئيس له كما حدث بعد اجتياح 1982، متجاهلاً حدود قدرات القوة الصلبة التي يمتلكها في مواجهة إرادة الشعوب المرتبطة بموروثات عقائدية ووطنية تمهّد لتقبّل التضحيات الجسيمة التي قد تتكبّدها على أنها أثمان مقبولة إن لم تعتبرها طبيعية أو عادية.
في المقابل، أكدت قوى المقاومة في غزة ولبنان أنّ المعايير التي تعتمدها في تقييمها لتقدير نجاحها أو إخفاقها لا ترتبط بتمكّنها من إلحاق ضرر معادل لما يمكن أن تتعرّض له، وإنما تتعلّق بتمكّنها من الخروج من المواجهة محافظة على بقائها، وبتمكّنها أيضاً من ضمان إخفاق العدو في تحقيقه للمهمة التي أخذها على عاتقه.
وعليه، لم تخرج هذه القوى في تقديرها لنتائج المواجهة مع الكيان عن هذا الواقع، حيث تقاطعت رؤية حزب الله ـــــ في نجاحه بالخروج من هذه المواجهة محافظاً على وجوده وسرديّته ـــــ مع ما قامت به حماس في اليوم التالي للحرب من استعراض يؤكّد قدرتها على الاستمرار بالتحكّم بالنظام العامّ في القطاع، كما قدرتها على ترتيب عملية إدارة واقع الأسرى وفق الترتيبات التي كانت مقرّرة سلفاً.
من ناحية أخرى، أظهر الواقع الداخلي الإسرائيلي المنقسم على ذاته، لناحية عدم اقتناع الرأي العام الإسرائيلي بالانتصار المطلق، بالتوازي مع ما اعتبرته بعض التيارات السياسية بمثابة استسلام كارثي يقوّض ما حقّقه "الجيش" على مستوى ترميم الردع.
فبعد أن ألزم نتنياهو نفسه وحكومته و"جيشه" بأهداف ترتبط بالصهيونية والأمن اليهودي بعيداً عن ما كان من الممكن اعتباره مقبولاً، أي في حدود الردع التقليدي الذي يمكن حصره في العمل على إقناع الآخرين بعدم جدوى القيام بما يهدّد "الدولة" بسبب التكاليف والخسائر التي قد يتكبّدونها، ذهب باتجاه ربط الردع بالقضاء نهائياً على هؤلاء، حيث أكدت نتائج الحرب الواقع السائد في أوساط المحللين الإسرائيليين الذي عبّر عنه بن كسبيت في صحيفة معاريف حيث اعتبر أنّ "دولة" اليهود فشلت في مهمتها، أي ما اعتبره فشل الصهيونية في إقامة وطن آمن لليهود.
فمن خلال هذا التوجّه، تحوّلت سردية نتنياهو خلال الحرب إلى ما يشبه الخطيئة، حيث إنّ ما هيمن على الوعي الجماعي الإسرائيلي من يقين بتحقيق مخطّطات غير واقعية أدى إلى نتائج عكسيّة لم تنجح في بثّ الطمأنينة في نفوس المستوطنين. فمقابل تقبّل قوى المقاومة لحقيقة مآلات الحرب وتأكيد التزامها بالمسارات التي تبنّتها منذ نشأتها، بالإضافة إلى ثقتها في خيارات قادتها والعمل على استعادة عافيتها من خلال ملء الشواغر وإعادة رسم استراتيجيات المواجهة وفق ما تتطلّبه الظروف المستجدّة بسرعة قياسية أوحت بالأمان لدى بيئتها الحاضنة، يظهر واقع الكيان اليوم، انطلاقاً من الاستقالات الجماعية لقادته الأمنيين والعسكريين والتهديد بفرط عقد الحكومة الحالية، بالتوازي مع رفض المستوطنين للعودة إلى حياتهم الطبيعية كما كانت قبل طوفان الأقصى، أنّ المهمة التي خرج من أجلها "الجيش" وأجمعت عليها كلّ أطياف المجتمع الإسرائيلي باتجاهاته المتناقضة لم تكتمل.
وإذا عطفنا هذا الواقع على الرؤية التي يحاول الكيان إرساءها على محيطه الإقليمي لناحية ضمان التفوّق المستند على القوة وعدم تقديم التنازلات مقابل التطبيع مع الدول العربية، كمجرّد القبول بالتعهد بضمانات لحلّ الدولتين مثلاً، فإنّ الواقع في المستقبل سيبقي الآفاق مفتوحة لتجذّر الفكر المقاوم في المجتمع الفلسطيني بما ينسجم مع ما تعتبره حركات المقاومة الفلسطينية حقاً طبيعياً.
وإذا ربطنا هذا الواقع مع السلوك الإسرائيلي المتفلّت من الالتزام بسيادة دول الجوار، كما هو الحال في جنوب لبنان حيث يستمرّ "الجيش" الإسرائيلي في الاعتداء على البنى المدنيّة للقرى الجنوبية، ويمهّد لبقائه في لبنان بعد انتهاء مهلة الستين يوماً نتيجة يقينه بعدم تمكّنه من ضمان الأمن لمستوطني الشمال وفشله في خلق بيئة خاضعة على حدوده، فإنّ ذلك لا يمكن أن يُقرأ إلا من خلال فشله في ترميم ردعه.
وعليه، يمكن تأكيد فشل الكيان خلال 471 يوماً من العدوان المتفلّت من أيّ ضوابط، والمتسلّح بغطاء دولي وصمت عربي واصطفاف داخلي إسرائيلي جارف في تحقيق ما تمّ اعتباره شرطاً لازماً لاستمرار الكيان وضمان بقائه. فاعتراف نتنياهو ومن خلفه المستويين السياسي والأمني بأنّ النصر التامّ هو فقط ما يضمن للكيان بقاءه، وأنّ الواقع الحالي يفترض العمل مستقبلاً لاستكمال تحقيق الأهداف، يؤكّد أنّ ترميم الردع بمفهومه النظري الإسرائيلي لم يتحقّق.