من سيدة النّجاة إلى سيدة الطيونة
اختطاف الشارع المسيحي من انتمائه الوطني إلى جحر سياسي بدائي، استمر مع سمير جعجع خلال 4 عقود على رأس قيادة "القوات"، حين كانت ميليشيا، وبعد أن صارت حزباً.
المجزرة التي نفّذتها ميليشيا "القوات اللبنانية" بحقّ متظاهرين مدنيين يوم الخميس الفائت كانت كاملة. الإعداد اللوجستي لها لم تغب عنه فاصلة أو شاردة. استند المجرمون خلال اقتراف فعلتهم إلى مضمون طائفي ومناطقي، واخترعوا مخاوف، وأشعلوا غرائز، لإبراز القدرة على ارتكاب القتل، ولو كان في وضح النهار.
القتل ليس وظيفة هذه الميليشيا فحسب، بل هو أيضاً أقرب إلى أسلوب حياة. منذ تأسيس "حالة" الميليشيا المذكورة قبل أن تكون "حزباً" في العام 1976، اتّشح سلوكها بالعنف والإرهاب "المنظّم" الذي طال جميع اللبنانيين سواسية، ولم ينأَ عن المسيحيين، بل بدأ بهم، من مجزرتي "إهدن والصفرا"، إلى ما سمي بحرب "الإلغاء"، وما بينها من جرائم بحق كهنة وضباط وطلاب وغيرهم، جلّهم من الأبرياء، وكلّهم مسيحيون، بغرض أن تُخضِع البيئة المسيحيّة وتمثلها وتنوب عنها عنوة.
اختطاف الشارع المسيحي من انتمائه الوطني إلى جحر سياسي بدائي، استمر مع سمير جعجع خلال 4 عقود على رأس قيادة "القوات"، حين كانت ميليشيا، وبعد أن صارت حزباً. دخوله السجن لمدة 11 عاماً لم يخفّف من أحقاد دفينة تشرّبها يافعاً في مدرسة ميليشيا "الكتائب"، التي اتهمته بتفجير مكتبها الرئيسي قرب المرفأ في بيروت في العام 1993.
لا يريد سمير جعجع للبنانين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، الخروج من ظلامية التطييف والعنصرية إلى رحاب المواطنة، فهو ابن بارّ لنظام التحاصص المذهبي. إن شذّ عنه، ذهب إلى الفيدرالية بقصد الانعزال والتقوقع، وحذا حذو نموذج كيان الاحتلال الإسرائيلي. وما شعارات التقسيم التي تمسّك بها خلال ثمانينيات القرن المنصرم، من "حالات حتماً" إلى "أمن المجتمع المسيحي"، سوى دلالة إضافية على عقيدته السياسية التي لم تفلح، ولو لمرة واحدة، في الجبهة العسكرية وفي أي جبهة أخرى.
ليس سمير جعجع زعيم الحرب الأوحد في لبنان الذي ارتكب ما يندى له جبين الإنسانية، لكنه يتميّز بين أقرانه بعدم التورع عن خوض المغامرات القاتلة، على غرار مغامرته الأخيرة "غزوة الطيونة"، التي أتاحت لميليشياه أن تجدّد أوراق اعتمادها للخارج بأنّها أنجع أداة ندية للمقاومة، وهو يبالغ في تقدير ما يستطيع فعله أمام مشغليه، ويحيل السياسة إلى ابتذال يتجاوز مفهوم الخيانة الوطنية وينتقل بصاحبه إلى مصاف العدو.
يريد سمير جعجع أن يحتكر تمثيل ضحايا انفجار المرفأ من دون موافقتهم، وأن يغضّ النظر عن تاريخه في التوحش. وإذا كانت أوضاع لبنان تسير على حافة الهاوية، فهو يدفعها إلى الهاوية نفسها، معتقداً أن بالإمكان مداومة إحاطة جرائمه بالغموض الذي يتيح له التواري بعيداً عنها. نجح سابقاً في ذلك، وهو يسعى لتكراره اليوم.
نحو أكثر من ربع قرن يفصل بين جريمتي كنيسة "سيدة النجاة" وسيدة "الطيونة". القاتل حرّ طليق تحت مرأى وحماية القوى الأمنية التي تتعامل مع الجريمة بوصفها إشكالاً فردياً ذا بعد سياسي، بحسب ما فرضت واشنطن في سردية وقوع المجزرة.
إنّها المغامرة الأخيرة لسمير جعجع، وحكومة ميقاتي تواجه اليوم ما هو أبعد بكثير من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، فالبلد إزاء أزمة نظام فاض فساده، وانفجر باللبنانيين في مرفأ بيروت، ودفنه سمير جعجع في مجزرة الطيونة.
لا عودة للبنان إلى ما قبل مجزرة الطيونة. الخطيئة هذه المرة توّجت سلسلة خطايا جعجع الطويلة، والمراهنة على الآلة العسكرية الإسرائيلية وواشنطن وأنظمة الخليج، تفكّ اللثام عن سذاجة القراءة السياسية للواقع القائم والعبر من التاريخ القريب والبعيد.