محور الارتكاز بين ما كيندر وبريجنسكي شرق أوروبا – آسيا الوسطى (أوراسيا)
لجأ الأميركيون إلى استفزاز الروس عبر أوكرانيا بهدف تفجير الحرب الروسية - الأوكرانية لمنعهم من السيطرة على شرق أوروبا عبر التواصل مع ألمانيا، والتي اتفق ماكيندر وبريجنسكي على خطورة التقاء الدولتين وتحالفهما.
بالرغم من الشهرة التي حظيت بها نظرية هالفورد ماكيندر (قلب الأرض أو محور الارتكاز)، وسيادتها على الذهن الاستعماري الغربي حتى الآن، فإنه وخلال فترة قصيرة قبل سقوط الاتحاد السوفياتي سادت نظرية أخرى تبنّاها زبجينيو بريجنسكي، نظرت إلى مكان آخر من العالم كمحور للارتكاز الذي يجب على الولايات المتحدة أن تسيطر عليه من أجل السيطرة على العالم.
تنص نظرية ماكيندر على أن: " من يتحكم في شرق أوروبا يسيطر على قلب الأرض؛ ومن يتحكم في قلب الأرض يسيطر على جزيرة العالم؛ ومن يتحكم في جزيرة العالم يسيطر على العالم "، ويقصد ماكيندر بمصطلح " جزيرة العالم " القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، أما " قلب الأرض "، فهو إشارة إلى روسيا، وهو يصل إلى نتيجة بأن الدولة التي تمتلك القوة في البر والبحر معاً هي التي ستحقق السيادة، ولا يمكن تحقيق هذا الشرط إلا إذا توفرت للدولة كتلة قارية متجانسة منفتحة على المحيطات وقوية بما فيه الكفاية.
ولما كانت روسيا وحدها هي التي تمتلك مثل هذه الكتلة الأرضية، فلا بد من منعها من الحصول على منافذ للبحار الحرة، إذا ما أريد الحيلولة بينها وبين السيطرة على العالم.
بناء على هذه النظرية التي سادت الغرب، فقد تعرضت روسيا في صورة الاتحاد السوفياتي إلى العديد من محاولات التحجيم في شرق أوروبا، بداية من دعم الحركات الفاشية، وانتهاء بدعم الحزب النازي في ألمانيا بقيادة هتلر ليمثل حاجزاً معادياً ضد الشيوعية، قبل أن يتجاوز هتلر الخطوط الحمر للبريطانيين ويقترب من تركيا وآبار النفط في الشرق الأوسط، ليتحول إلى عدو للغرب وتتحالف الرأسمالية مع الاتحاد السوفياتي للقضاء على الوحش الذي قامت بتربيته.
لقد خرج الاتحاد السوفياتي من الحرب العالمية الثانية وهو أكثر قوة بقيادة الزعيم جوزيف ستالين، وتمكنت الأحزاب الشيوعية من السيطرة على الأوضاع في شرق أوروبا، وبذلك فقد كان من المتوقع أن يتمكن من السيطرة على جزيرة العالم ثم على العالم، وهو ما تحقق جزئياً بالفعل، حيث تمكن من تقليص النفوذ الغربي في آسيا وأفريقيا، لكن هذه السيطرة توقفت فجأة بعد وفاة ستالين، وقيام نيكيتا خروشوف وخلفاؤه في زعامة الاتحاد السوفياتي بتبني سياسة التعايش السلمي مع الدول الرأسمالية، وهي السياسة التي أدت إلى تراجعات مشينة بالنسبة إلى السوفيات أمام الأميركيين في قضايا مهمة مثل قضية أزمة برلين 1961، الصواريخ الكوبية 1962، قضية الغزو الأميركي لفيتنام 1956 - 1975، والتخاذل عن حماية نفوذه في مصر أثناء حرب 1967 وما بعدها مثل اتفاق الاسترخاء العسكري في الشرق الأوسط 1972، وانتهى الأمر بآخر زعمائه ميخائيل غورباتشوف إلى الإعلان عن سياسة الجلاسنوست (الشفافية) والبريستوريكا (إعادة الهيكلة) ثم إعلان تفكيك الاتحاد السوفياتي في 1991.
إذاً، فرغم نجاح السوفيات الجزئي في توسيع نفوذهم في عهد ستالين (الذي تأثر بنظرية ماكيندر)، لكن مرحلة ما بعده شهدت تراجعاً اختاره الزعماء السوفيات أنفسهم عن هذا المشروع بشكل مريب، وكان المشروع الأميركي الفاعل في مهاجمة النفوذ السوفياتي يقوم على إعادة السيطرة على المنطقة الرخوة في النفوذ السوفياتي وهي الشرق العربي، الذي سادت فيه أنظمة ملكية رجعية من جهة، وجمهورية قومية من جهة أخرى، وكانت حرب أكتوبر (تشرين) 1973 وما تلاها من مفاوضات السلام التي انتهت بمعاهدة كامب دافيد، والحرب الأهلية في لبنان التي انتهت إلى اتفاق الطائف، وأخيراً الحرب العراقية- الإيرانية، إيذاناً بنجاح الأميركيين في تقليص النفوذ السوفياتي في الشرق العربي، ونتج من هذا التراجع نجاح الأميركيين في استغلال الإسلام السياسي لدعم المجاهدين الأفغان في مواجهة الغزو السوفياتي والنظام الأفغاني كتقليص جديد للنفوذ السوفياتي في آسيا الوسطى ليصبح انهيار الاتحاد السوفياتي حتمياً.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي صاغ مستشار الأمن القومي الأميركي زيبغنيو بريجنسكي تعديلاته على نظرية هالفورد ماكيندر عندما أشار في كتابه الصادر عام 1997 " رقعة الشطرنج الكبرى: التفوق الأميركي وحتمياته الجيو إستراتيجية " إلى أهمية قارة أوراسيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، والتي تمتد من لشبونة في البرتغال إلى فلاديفستوك على بحر اليابان.
رأى بريجنسكي أن أبعاد الهيمنة العالمية لأميركا كبيرة على نحو معترف به، ولكن عمقها قليل، ومحدد بتقييدات داخلية وخارجية على حد سواء.
وفي المقابل، يؤكد أن الحجم الكبير والتنوع في أوراسيا إلى جانب قوة بعض دولها، يحدان من عمق النفوذ الأميركي، ومن حجم السيطرة الأميركية على مجرى الأحداث، مشيراً إلى أن هذه القارة باتساعها الجغرافي وكثافتها السكانية وثقافاتها المتنوعة، بالإضافة إلى كثرة دولها الطموحة تاريخياً والنشطة سياسياً، لا يمكن أن تذعن لأي قوة عالمية مهما كانت ناجحة اقتصادياً أو بارزة ومتفوقة سياسياً.
ومن هنا، اعتبر بريجنسكي أن بروز القوة الأميركية على أوراسيا بمنزلة الجائزة الجيوبوليتية الرئيسية لأميركا، مشيراً إلى أن السيطرة العالمية لأميركا تعتمد بشكل مباشر على المدى الزمني والمدى الفعال لاستمرار هذه السيطرة (التفوق) على القارة الأوراسية، معتبراً أن أوراسيا هي أكبر قارات العالم ومحوره جغرافياً، وبالتالي فالقوة التي ستحكمها سوف تسيطر على اثنتين من مناطق العالم الثلاث الأكثر تقدماً والأكثر إنتاجاً على الصعيد الاقتصادي، كما أن السيطرة على هذه القارة الضخمة سوف تؤدي إلى السيطرة على أفريقيا كذلك جاعلة نصف الكرة الغربي وأوقيانوسيا في وضع ثانوي بالنسبة إلى القارة الرئيسية في العالم. ومن هنا، يحذر بريجنسكي من بروز قوة قادرة على منافسة أميركا في هذه المنطقة.
في توقعاته للمنافسين، اعتبر بريجنسكي أن اللاعبين المحتملين في الطرف الغربي هما فرنسا وألمانيا اللتان تحفزهما رؤية مستقبلية عن أوروبا الموحدة، وفي الوقت الذي تمتلك فيه فرنسا مشروعاً للعب دور سياسي رئيسي في توحيد أوروبا، وتعدّ نفسها نواة لتجمع دول البحر المتوسط وشمال أفريقيا، فإن ألمانيا تشعر على نحو متزايد بوضعها الخاص كأهم دولة في أوروبا، بوصفها القوة الاقتصادية المحركة للمنطقة. كما تشعر بمسؤوليتها الخاصة عن دول أوروبا الوسطى المتحررة حديثاً من قيودها.
وكلتا الدولتين تعدان نفسيهما مالكتين لحق تمثيل المصالح الأوروبية في التعامل مع روسيا. أما بريطانيا فيرى بريجنسكي أنها ليست لاعباً جيو استراتيجياً أصلاً، كونها دولة غير معنية على نحو متزايد بالخيارات الرئيسية التي تواجه مستقبل روسيا، معتبراً أنها أخرجت نفسها من اللعبة الأوروبية.
أما في الشرق، فإن كلاً من روسيا والصين هما اللاعبان الرئيسيان، بينما الهند على وشك أن تبرز كقوة إقليمية لتصبح لاعباً عالمياً محتملاً. وفي المقابل، ورغم أهمية اليابان، فإنها ليست لاعباً جيو استراتيجياً نظراً لابتعادها عن طموحات السيطرة الإقليمية، مفضلة العمل تحت الحماية الأميركية شأنها شأن بريطانيا في أوروبا.
بالرغم من أن بريجنسكي قام بتوسيع مفهوم محور الارتكاز لماكيندر ووضعه في إطار ممتد من المحيط الأطلنطي وحتى بحر اليابان، فإن الجزء الهام من محور الارتكاز بالنسبة له كان آسيا الوسطى، فالسيطرة على دول هذه المنطقة لا تضمن توفير مصادر جديدة للطاقة والثروة المعدنية فحسب، وإنما توفر مركز حراسة يمكن أميركا من إحكام السيطرة على نفط الخليج الفارسي: " لقد تم إنجاز الأسبقية الأولى، وهي الإخضاع الاقتصادي للقوة العظمى السابقة. فما أن تهاوى الاتحاد السوفياتي حتى تمكنت الولايات المتحدة من الاستيلاء على نحو ما يقدر بـ 300 بليون دولار من الممتلكات الروسية، كما استطاعت أن تهز الاستقرار النقدي، وأن تضمن أنه لن يكون هناك خيار آخر أمام روسيا الضعيفة سوى الاتجاه غرباً نحو أوروبا لتحقيق الإنعاش الاقتصادي والسياسي، وليس التوجه نحو جنوب ووسط آسيا ".
على أن نظرية بريجنسكي والتي استمرت لفترة حتى عهد بوش الابن، تعرضت لهزة كبيرة نتيجة أن الأمور لم تسر حسب توقعاته، فروسيا لم تتجه كثيراً نحو أوروبا، بل تمكنت من التوجه نحو الجنوب والاحتفاظ برابطة الدول المستقلة (تأسست كبديل للاتحاد السوفياتي 1991) فاعلة حتى الآن، بالإضافة إلى تأسيسها الاتحاد الاقتصادي الأوراسي عام 2015، وفي المقابل، أدى الانسحاب المخجل للأميركيين من أفغانستان إلى زيادة الثلاثي الرافض للهيمنة الأميركية (الصين، روسيا وإيران) في آسيا الوسطى، إضافة إلى دورها المتصاعد في أفريقيا برفقة الصين وإيران، مقابل الإهمال الأميركي للقارة السمراء في الفترة الأخيرة، بناء على رؤية بريجنسكي سالفة الذكر.
ومع عودة الاعتبار لنظرية ماكيندر، فإن بعض الجوانب التي طورها بريجنسكي على نظريته ما زالت في الاعتبار بالنسبة إلى الساسة الأميركيين ومن بينها ما أشار إليه (من دون تصريح واضح) في كتابه " رؤى استراتيجية: أميركا وأزمة السلطة العالمية " من احتمال تطور المنافسة الصينية – الهندية في آسيا الجنوبية تحديداً، خاصة مع تصاعد النفوذ القومي الهندوسي في الهند حيث يتحدث الاستراتيجيون الهنود بصراحة عن هند كبرى تقوم بدور مهيمن في المنطقة من إيران إلى تايلاند، وما تقوم به الهند حالياً من محاولات فرض هيمنتها على المحيط الذي يحمل اسمها، وهي محاولات من الواضح أنها تحظى برضى الأميركيين والدول الأوروبية.
أما الشرق العربي، فيبدو أنه ما زال المنطقة الرخوة التي تتم عن طريقها محاولة ضرب نفوذ القوى المحتملة للمنافسة مع الولايات المتحدة، وتمثل الحرب الصهيونية ضد فلسطين ولبنان ثم إسقاط النظام السوري المتحالف مع الروس جزءاً من سعي الأميركيين لتحجيم هذا النفوذ، وإفشال المشروع الروسي للسيطرة على أسواق الغاز في العالم، عبر إشعال هذه الحرب ومحاولة تغيير وجه الشرق الأوسط على حد تعبير رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو. لكن، هل ستتوقف عند هذه النقطة؟
لقد لجأ الأميركيون إلى استفزاز الروس عبر أوكرانيا بهدف تفجير الحرب الروسية - الأوكرانية لمنعهم من السيطرة على شرق أوروبا عبر التواصل مع ألمانيا، والتي اتفق ماكيندر وبريجنسكي على خطورة التقاء الدولتين وتحالفهما.
ويأتي الفتور الأميركي في التعامل مع الانقلابات العسكرية والمواقف المتشددة أفريقياً من فرنسا في الفترة الأخيرة ضمن حرص الأميركيين على تحجيم الطموحات الفرنسية للعب دور أساسي في كل من أوروبا وحوض البحر المتوسط وأفريقيا، وهو كذلك من أهداف الحرب الروسية – الأوكرانية.
وإذا كانت الحرب الصهيونية على فلسطين ولبنان ثم سقوط النظام السوري يمثلان ضربة لكل من الإيرانيين والروس، فإن توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين إيران وروسيا يعني بوضوح أن هناك استعدادات من كليهما للرد على هذه الضربة، وهو ما بدأ من انضمام إيران إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وقد يؤدي إلى مشكلة كبيرة للأميركيين وحتى حلفائهم الأتراك في حالة حدثت أي تغيرات في موقف آذربيجان الواقعة على مفترق الطرق بين أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى والغنية بالنفط والغاز الطبيعي، وبالتالي يعدّها الأميركيون منذ التسعينيات حجر الزاوية في سيطرتهم على شرق أوروبا ووسط آسيا، وبحر قزوين[1] عبر مشروع إردوغان الطامح لقيادة الأمة التركية بالرغم من أنه كتركي لا يمكنه التفاهم مع اللغات التركية السائدة في وسط آسيا.
إذاً، لقد تأرجحت الرؤية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية ما بين نظرية هاليفور ماكيندر، حتى سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم نظرية زيبجينيو بريجنسكي في التسعينيات، وأخيراً عادت إلى رؤية جديدة تعتمد على نظرية ماكيندر المطعمة ببعض التعديلات البريجنسكية، في محاولة لمنع قيام منافس جديد، لكن عندما يتحدث بريجنسكي عن انكسار الحلم الأميركي في كتابه " رؤى استراتيجية " الصادر عام 2012، محذراً من المصير الذي تتحرك إليه أميركا، فإن هذا يعني أن المشكلة لدى الأميركيين لم تعد الآن محاولة منع ظهور منافس وإنما تجنب السقوط السريع.
[1] كان لوجود الإمبراطورية الروسية ثم الاتحاد السوفيتي دور كبير في منع الأميركيين من الوصول إلى الثروات النفطية ببحر قزوين والذي يعتقد أنه يحتوي على ثلث مخزون الطاقة في العالم، حيث تتواجد أكبر حقوله اتساعاً في كازاخستان وأذربيجان.
ويذكر الصحفي الشيوعي الأميركي جون ريد أنه وجه سؤالاً في سنة 1919 إلى المؤتمر الشعبي للشرق الذي عقد في باكو عاصمة أذربيجان: هل تعرفون كيف ينطقون كلمة " باكو " في الولايات المتحدة ؟ إنهم ينطقونها " بترول "، وقد ناضلت روسيا القيصرية في نهاية القرن التاسع عشر لإبقاء شركة ستاندرد أويل التي يمتلكها روكفلر بعيداً عن المنطقة القزوينية.