الصين وهاجس الأمن في آسيا الوسطى
تدرك الصين النوايا الأميركية، ولا تغيب عن ناظريها رغبتها في مدّ نفوذها بالقرب منها ومحاصرتها تحت دعاوى الاستقلال والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير.
تعارضت خطط الولايات المتحدة للحفاظ على نفوذها في آسيا الوسطى بعد انسحابها من أفغانستان مع مصالح موسكو وبكين حيث تتفاعل روسيا مع آسيا الوسطى بعلاقاتها السياسية والعسكرية، أما الصين التي عملت سابقاً كدائن ومحرّك للنمو فبدأت تفعّل وجودها وتدرك خطورة الاختراقات الأمنية في ظل الانشغال الروسي. فزعزعة استقرار آسيا الوسطى عبر أفغانستان ودول الرابطة المستقلة يخدم مصالح الغرب عن طريق توجيه ضربة لكل من روسيا والصين وإيران في آن واحد.
بعد انسحابها من أفغانستان تركت الولايات المتحدة كمية كبيرة من الأسلحة والمعدات لأسباب متعددة، وذلك إلى جانب توقيع اتفاقية سلام في الدوحة مع طالبان، حضرها ممثلو الجانبين والأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ ووزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو، إضافة إلى العديد من السياسيين والدبلوماسيين البارزين الآخرين، وصاحبتها اتفاقيات إطارية لم يُعلن عن فحواها. وقد تعهّدت الولايات المتحدة من بين أمور أخرى بإرسال مساعدات مالية سنوية لتدريب قوات الأمن الأفغانية.
مؤخّراً أكد بيان الدول السبع عزم البلدان المشاركة على دعم سيادة بلدان آسيا الوسطى واستقلالها وسلامتها الإقليمية، والالتزام بالعمل مع بلدان آسيا الوسطى للتصدي للتحديات الإقليمية، بما في ذلك "عواقب الحرب العدوانية الروسية، والآثار المزعزعة للاستقرار في أفغانستان، وانعدام الأمن الغذائي وأمن الطاقة والإرهاب، وعواقب التغيّر المناخي".
أوضح قادة أغنى سبع ديمقراطيات في العالم موقفهم من القضايا الخلافية مع بكين، مثل النفوذ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ ووضع تايوان. لكن الجزء الأهم من رسالتهم تركّز على ما أسموه "الإكراه الاقتصادي"، الذي تمارسه الصين.
تدرك الصين النوايا الأميركية، ولا تغيب عن ناظريها رغبتها في مدّ نفوذها بالقرب منها ومحاصرتها تحت دعاوى الاستقلال والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير. لكنّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان مهّد أيضاً لمرحلة جديدة في آسيا الوسطى وفتح مجالاً للصين لتحقيق مكاسب أمنية لخططها الاقتصادية عبر إرساء الاستقرار في أفغانستان، إلّا أنها تخشى التهديدات الأمنية التي يمكنها جرّ المتطرّفين إلى ساحة صراع جديدة.
إيران هي الأخرى دعمت توافقات الصين وروسيا للمحافظة على جملة الجهود والأنشطة التي تشاركتها والأقلية الشيعية في أفغانستان إلا أنها تشكو من عدم تطوير اتفاقية المياه المعقودة بين الدولتين عام 1973، وخطر السدود الذي يساهم إلى جانب الجفاف بانحسار حصتها من مياه نهر هلمند وسوء العلاقة مع طالبان، إضافة إلى مشكلات اللاجئين والتهريب. الدول الثلاث بحاجة إلى تفاهمات أكثر من الناحية الأمنية والاقتصادية في منطقة وسط آسيا.
وكانت الصين قد عقدت اتفاقية الشراكة مع إيران من أجل تطوير ميناءي تشابهار وجاسك حيث لا يبعدا كثيراً عن مضيق هرمز، إضافة إلى ميناء جوادر في باكستان وكياوكبيو في ميانمار وهما الميناءان الأبرز في سلسلة الموانئ التي تطل بها الصين على المحيط الهندي. وناقشت وحركة "طالبان" خططاً لإدخال أفغانستان في مشروع البنية التحتية للحزام والطريق، حيث تتطلّع بكين إلى تعزيز الاستثمار في الدولة.
تدعم الصين التواصل الاستراتيجي وتنسيق السياسات مع أفغانستان وباكستان من خلال آلية التعاون الثلاثي، من أجل تعزيز حسن الجوار والثقة الاستراتيجية المتبادلة. تعتبر الصين وباكستان من الدول التي لها علاقات جيدة مع حركة طالبان الأفغانية حتى قبل خروج القوات الأميركية من أفغانستان وانهيار حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني.
وهما لا تعترفان بحكومة "طالبان"، لكنهما سلّمتا سفارة أفغانستان في بكين وإسلام أباد إليها. أفغانستان وباكستان على استعداد لتعزيز التعاون الثلاثي وصياغة خارطة طريق للتعاون في مجالات مثل السياسة والأمن والاقتصاد، وصون المصالح المشتركة للدول الثلاث، وتحقيق المنفعة المتبادلة وجلب المنافع لشعوب الدول الثلاث المجاورة.
تأمل أفغانستان في تعزيز التعاون مع الصين في تطوير البنية التحتية في إطار مبادرة الحزام والطريق ووجهات النظر حول كيفية دعم الحكومة الأفغانية في إعادة البناء الاقتصادي للدولة الواقعة في جنوب آسيا التي مزّقتها الصراعات. لكنّ الصين تضغط على طالبان للوفاء بالتزاماتها الإقليمية والدولية. الصين وباكستان مستعدتان لدعم جهود إعادة الإعمار الأفغانية ومكافحة الإرهاب والتعاون الأمني مع أفغانستان وباكستان لمكافحة التهديدات الإرهابية.
دول في آسيا الوسطى ساحة للصراع مع الأميركي
بات الصراع بين واشنطن وبكين في وسط آسيا واضحاً ومن ضمنها دول آسيا الوسطى وهي طاجيكستان، أوزبكستان، تركمانستان، كازاخستان، قرغيزستان. دول آسيا الوسطى ملعب صراع بين الولايات المتحدة الأميركية ومجموعة السبع من جهة، وبين الصين الصاعدة. تنظر الصين إلى منطقة وسط آسيا بوصفها جواراً استراتيجياً، لا يمكن السماح لواشنطن باختراقه بحال من الأحوال، النموذج الأوكراني بالعلاقة مع روسيا ماثل أمام عينيها في العلاقة مع روسيا.
تعكس العلاقات بين الصين ودول آسيا الوسطى حاجة الصين وروسيا إلى آسيا وسطى تنعم بالاستقرار. وقد تبلور الأمر في قمة الصين ودول آسيا الوسطى حيث تمّ السعي من أجل بناء مجتمع متماسك ومصير مشترك. فلا تقف الصين في علاقتها مع دول وسط آسيا عند حدود التعاون التنموي، وهو أحد أهم أدواتها لتحقيق مشروعها، فهي على استعداد لمساعدة دول آسيا الوسطى لتعزيز أمنها وقدراتها الدفاعية، فيما عرضت "خطة طموح" لتعزيز التعاون بين الصين ودول المنطقة الخمس، مشدّدة على رفض "التدخلات الخارجية" في شؤون آسيا الوسطى.
فهي تدرك أنّ المحاولات الأميركية جارية لتفكيك وسط آسيا، في محاولة لعرقلة النمو الصيني، وقطع الطريق على العودة القطبية لروسيا مرة جديدة. من هنا أتت التحذيرات الصينية لدول وسط آسيا من فكرة الثورات الملونة، التي تمت، في جورجيا أو أوكرانيا. وترى أنه يتعيّن على الصين ودول آسيا الوسطى مواجهة محاولات التحريض لقيام ثورات ملونة، والتمسك بسياسة عدم التسامح تجاه الإرهاب والتيارات الانفصالية.
تعمل الصين على آسيا وسطى مستقرة ومزدهرة متناغمة ومترابطة عمادها التمسّك بروح التساند والتآزر، التمسك بالتنمية المشتركة والأمن للجميع وتعزيز البناء المؤسسي وتوسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية عبر تعميق التواصل والترابط.
يسعى الجانب الصيني إلى العمل على زيادة حجم البضائع المنقولة عبر الحدود على نحو شامل، ودعم بناء ممر النقل الدولي العابر لبحر قزوين، وزيادة السعة المرورية للطرق العامة بين الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان وبين الصين وطاجكستان وأوزبكستان، ودفع التنسيق والتشاور بشأن مشروع السكك الحديدية بين الصين وقيزغيزستان وأوزبكستان.
وكذلك الإسراع في تطوير وتحديث المعابر القائمة، وفتح معبر بيديل الجديد، وتعزيز الجهود لفتح أسواق النقل الجوي، وتطوير الشبكة اللوجستية الإقليمية، وتدعيم بناء المحاور لقطارات الشحن بين الصين وأوروبا، وتشجيع المؤسسات المتفوّقة على بناء مستودعات خارجية في دول آسيا الوسطى، وإنشاء منصة الخدمات الرقمية المتكاملة.
توسيع التعاون في مجال الطاقة.. تدعيم الابتكار الأخضر
الأفكار التي طرحتها القمة الصينية مع دول آسيا الوسطى كانت نابعة من رغبة في تطوير العلاقات وتنميتها والتنبّه إلى الخطر الأمني. تدرك الصين أنّ مشاريعها التنموية والاقتصادية ستتعرّض إلى الاختراق مع محاولات الولايات المتحدة افتعال المشكلات في دول آسيا الوسطى من أجل إفشال بناء قوة اقتصادية في منطقة غرب آسيا وشرقها ووسطها حيث تراهن على تفتيتها أمنياً ومنع أي محاولة للتعددية القطبية في ظل افتعال الحروب والأزمات بين البلدان في تلك البقعة الاستراتيجية.