لماذا يحتاج اليسار العربي إلى زعماء من طينة ميلانشون؟
حصول ميلانشون على أكثر من 7.7 ملايين صوت، وحلوله في المركز الثالث، كان بمنزلة نصف انتصار ونصف هزيمة.
رغم فشله في الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسيّة، لم يستغرق مرشح الاتحاد الشعبي، جون لوك ميلانشون، وقتاً طويلاً للعودة إلى صدارة المشهد السياسي في فرنسا، رغم انشغالات قطاعات واسعة من الفرنسيين بمآلات جولة الإعادة.
ميلانشون الذي قاد حملة انتخابية كانت أكثر من رائعة، جمّع من خلالها من حوله العديد من الشباب والنساء والرجال، ولا سيما من القطب اليساري، وأيضاً من الفرنسيين الذين هم من جذور مسلمة، وذلك على قاعدة برنامج طغى عليه البعد الاجتماعي في سياسات الدولة، والتحرّري على مستوى الحقوق الفردية، أظهر قوّة وعزيمة نادرتين على تجاوز مرارة الخيبة الانتخابية.
ليلة ظهور النتائج الأولية، لم يبرز الشيخ اليساري السبعيني بصورة السياسي المنكسر. افتتح كلمته حينئذ بالقول إنّ صفحة جديدة من النضال قد فتحت ساعتها. أصرّ ليلتها على تأكيد أنّ معركة فئات وازنة من الشعب الفرنسي كانت قد تجمّعت في مشروع الاتحاد الشعبي وفرنسا الأبية ستبقى متواصلة، وذلك دفاعاً عن سياسات أكثر عدالة في دولة انحرفت صوب اليمين منذ عقود خلت، لتكون بذلك جزءاً من نظام عالمي مغرق في النيو- ليبرالية المتوحشة حسّاً ومعنًى، على الطريقة الأميركية.
في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، كان ميلانشون قريباً من الانتقال إلى الدور الثاني وأيضاً جديراً به. هذا ما أظهرته من دون أيّ شكّ المناظرة التلفزيونية الهزيلة بين المتنافسَين في الدور الثاني، إيمانويل ماكرون ومارين لوبان. حصول ميلانشون على أكثر من 7.7 ملايين صوت، وحلوله في المركز الثالث، كانا بمنزلة نصف انتصار ونصف هزيمة في الآن ذاته. كلّ هذه العوامل لم تمنع الرجل من امتطاء حصان الفرسان الأشاوس مجدّداً، ليقود معركة جديدة بوصلتها الانتخابات التشريعية المقبلة.
في حواره الأخير مع قناة "بي آف آم" الفرنسية، لم يتردّد ميلانشون في كشف النقاب عن خطته المقبلة التي قال إنّه يهدف من خلالها إلى تجميع قطب اليسار الفرنسي، في مواجهة قطبَي اليمين المتطرف والليبرالية الماكرونية، بقصد حصد ما بين 11 و14 مليون صوت، من أجل الفوز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية المرتقبة، حتّى يكون الوزير الأول القادم لفرنسا.
قد يبدو هذا الهدف غريباً ومتناقضاً مع طروحات الرجل الذي يدعو منذ سنوات إلى تركيز أركان الجمهورية السادسة في فرنسا. لكن بالنسبة إلى ميلانشون، ما دام السياسي على قيد الحياة، فهو مطالب بأن يقاتل من أجل هدفه المنشود، حتّى وإن كان ذلك من داخل البناء القديم المتهالك، المسمّى بالجمهورية الخامسة الذي هو يرنو إلى إطاحتها.
وبقطع النظر عن مدى نسبة حظوظ ميلانشون في الوصول إلى هذا الهدف الذي قد يؤدي في حال تحققه إلى تعايش مرّ وعسير في السلطة التي ستحكم فرنسا خلال السنوات الخمس المقبلة، بين منظومتين سياسيتين هما على طرفي نقيض، فإنّ الزخم الذي نجح في إيجاده زعيم فرنسا الأبيّة والحلم الذي بثّه، ولا سيّما في صفوف الفئات الشبابية التي صوّتت له بكثافة عكس بقية منافسيه، يحيلاننا من منظور محاولة الفهم والمقارنة إلى الوضع البائس الذي تعيشه الأحزاب والقيادات السياسيّة اليسارية في العالم العربي. لعلّ السؤال الأبرز الذي وجب طرحه في هذا الإطار: لماذا فشل قادة اليسار العربي في ما نجح فيه ميلانشون في فرنسا، وقبله لولا دا سيلفا في البرازيل، على سبيل الذكر لا الحصر؟
لليسار العربي بمختلف تشكيلاته تاريخ طويل من النضالات التي عُبّدت بالدم من أجل التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية والحقوق والحريات والديمقراطية. هذا أمر ثابت لا لبس فيه، ولا يمكن أن ينكره إلا جاحد. قدّم اليسار في الوطن العربي جحافل من الشهداء من أجل القضيّة الفلسطينية، كما أسهم إسهامات نيّرة في الحقول الثقافية والفكرية والأكاديمية والفنيّة وفي القضايا الحضارية. هذا إضافة إلى ما قدّمه اليسار في العالم العربي مِن أجيال من المناضلين النقابيين في الحركات والتنظيمات العمّالية التي تكافح من أجل مجتمعات أكثر عدالة ومساواة في الفرص، في علاقة بحقوق الشغالين بالفكر والساعد.
بمجرد إلقاء نظرة فاحصة على واقع الحركات اليسارية في الفضاء الجغرا - سياسي العربي، نستشفّ حجم الفراغ والدمار الذي خلّفه ضعف تأثير اليسار في المعادلات السياسية، وخاصة الانتخابية. شتات من الأحزاب الفاقدة للعمق الجماهيري. تنظيمات سياسيّة تجاوزتها عقارب ساعة التاريخ. خطاب سياسي وأدوات اتصالية ماضوية وبالية لا تزال خارج دائرة مواكبة الثورات التكنولوجية والمقاربات العلمية العصريّة.
صحيح أنّ اليسار يسارات، وأنّ المواقف والطروحات تجاه القضايا الكبرى الوطنية والدولية قد تختلف من حزب يساري إلى آخر، لكن في الحقيقة هناك الكثير من الثوابت والمبادئ والأهداف التي هي تجمع أكثر ممّا تفرّق. هذا هو تقريباً ما نجح فيه ميلانشون في فرنسا، حينما تخلّى عن التكلّس الفكري والتنظيمي والسياسي الذي كثيراً ما يصطبغ به أداء زعماء الأحزاب اليسارية في العالم العربي.
ميلانشون برهن أنّ السياسة هي فعلاً فنّ الممكن لا فنّ التقوقع على الذات والاكتفاء بالتبريرات الواهية التي هي أقرب إلى المناحات المبنية على أيديولوجية الإنكار. هكذا تكون السياسة فنّاً نبيلاً أو لا تكون، من دون أن يتخلى السياسي اليساري عن المبادئ الكبرى والهدف الاستراتيجي. كان يمكن أن يكون ميلانشون منافساً لماكرون في الدور الثاني لو تخلّى بعض منافسيه الآخرين من المرشحين اليساريين عن "أنواتهم" المتضخّمة التي لم يحصدوا منها سوى النزر القليل من الحصاد الانتخابي. لكن مرض الزعامتية والقراءات المجانبة للعقلانية في تقدير موازين القوى في اللحظة التاريخية، فوّتت على اليسار الفرنسي فرصة لخوض غمار معركة الوصول إلى قصر الإليزيه إلى آخر رمق.
من المهم أن تستوعب قيادات الأحزاب اليسارية في العالم العربي هذا الدرس الانتخابي حتى يغادر معادلاته الصفرية التي تحوّلت إلى مصدر تندّر وسخرية. كما أنّ الاستئناس بما حقّقه ميلانشون من ديناميكية مواطنيّة اخترقت المشهد السياسي والانتخابي في فرنسا بات أكثر من ضروري.
لقد خسر ميلانشون معركة رئاسة الجمهورية في فرنسا، وقد يخسر صراعه من أجل الفوز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية الفرنسية. ففي الديمقراطية لا تفرز صناديق الاقتراع بالضرورة الأكثر كفاءة أو الأكثر جدارة تماشياً مع المصلحة العامة للمجتمع. غير أنّ اليسار الفرنسي ضرب موعداً جديداً مع التاريخ، من خلال زعيم ملهم قاوم وما زال يقاوم الرياح العاتية التي تسير ضدّ إرادته في التغيير، من أجل الخروج من بوتقة ثنائية "الطاعون والكوليرا".
هذه الثنائية المقيتة هي نفسها التي جعلت المجتمعات في الدول العربية رهينة في الغالب، بين منظومة الإسلام السياسي الزاحفة، والأنظمة المنبثقة عن مرحلة ما بعد الاستعمار، والتي تحوّلت في معظمها إلى مجرد أنظمة حكم تسلطي تستمد شرعيتها من الارتهان لدوائر سلطة القرار في واشنطن ومن لفّ لفّها من الدول الغربية.
إنّ اليسار العربي في حاجة إلى زعماء من طينة جون لوك ميلانشون، لا عن طريق الاستنساخ، بل عن طريق الاستلهام من التجارب المقارنة، واجتراح آليات تنظيمية جديدة وخطاب سياسي يقطع مع دوغمائية الكتب الصفراء وسذاجة السقوط في الفخاخ الدينية والهوياتية، ليدفع أكثر فأكثر نحو الانغراس في قضايا الشعوب، ولا سيّما الاقتصادية والاجتماعية.
هذه التجارب هي الأخرى تؤكد في الواقع أنّ زمن النظام العالمي الوحيد الأوحد قد أوشك على الانتهاء، لتحلّ محلّه توازنات جديدة، يمكن أن يكون اليسار العالمي المنتصر للحريّة وللعدالة الاجتماعية، ولحقّ الشعوب في تقرير مصيرها على أرضية السيادة الوطنية، دور مؤثّر فيها.