اضطرابات الشارع الفرنسي.. سلوك المتظاهرين لا يخفي عقم النظام
يمكن القول إن الدولة الفرنسية قد أهملت أثر التغييرات الديمغرافية التي طرأت على المجتمع الفرنسي.
لم يعد من الممكن مقاربة الاضطرابات التي تحدث في فرنسا بين الفينة والأخرى وفق رواية الشرطة والسلطة الفرنسيتين، حيث يتكرّر كالعادة الكلام عن أن سلوك الشرطة لم يكن إلا في إطار رد الفعل الضروري من أجل حفظ الأمن في مواجهة أفراد يخالفون القانون، ولا يلتزمون بصيغة العقد الاجتماعي الفرنسي القائم على أساس احترام وحماية الحقوق والحريات الأساسية المكوّنة للهوية الفرنسية.
فردّ الفعل العنيف الذي تجسّد في الأيام الأخيرة حرقاً وسلباً وتدميراً للممتلكات العامة، لا يتوافق مع الرؤية التي تصنّفه في خانة الرد على جريمة قتل المراهق الجزائري الأصل، وإنما يندرج في إطار التعبير عن رفض جماعي، تعبّر عنه فئة من المجتمع الفرنسي، لعنف تمارسه عملياً الشرطة الفرنسية، ويشكّل تعبيراً عن انقسام مجتمعي فرنسي، يتمسّك بموجبه الفرنسيون الأصليون بفوقية مزجت بين العرقية والطبقية، وشكّلت دليلاً على فشل العقد الاجتماعي الفرنسي في مواكبة مرحلة ما بعد الاستعمار.
فالمرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية قد شهدت حاجة فرنسية لليد العاملة الرخيصة الضرورية لإعادة الإعمار. ونتيجة لتمدّد الاستعمار الفرنسيّ في القارة الأفريقية، كان من الطبيعي أو المنطقي الاستعانة باليد العاملة الأفريقية التي كانت توّاقة للاستقرار في فرنسا.
ونتيجة للسياسة الانفتاح المجتمعيّ التي فرضتها ضرورات تلك المرحلة، حاز الكثير من المهاجرين على الجنسية الفرنسية، مع الإشارة إلى أن تلك المرحلة قد شهدت نوعاً من الاستقرار المجتمعي نتيجة حالة الرضا التي تملّكت كلّاً من الفرنسيين الأصليين والمهاجرين.
فالتخلّص من قسوة الحياة، والقبول بشروط العمل التي لا يقبلها الفرنسي الأصلي المتمسّك بالحرية والحياة الرغيدة، قد شكّلت المعادلة الذهبية للتعايش بين أطياف المجتمع الفرنسي. من ناحية أخرى، لم تكن الدولة الفرنسية معنية في سياساتها العامة بمراعاة الخصائص الاجتماعية والثقافية للفرنسيين من الأصول غير الفرنسية، حيث كان بعض المهاجرين الأوائل توّاقين للتمثّل بالمواطن الفرنسي الأصلي ومحاولة تقمّص أسلوب حياته، فتعاملت معهم على قاعدة استغلالهم ومحاولة حثهم ومساعدتهم على التخلّي عن ثقافتهم وتبنّي ثقافة الفرنسي ذي الأصول الفرنسية.
وعليه، لم يكن تعاطي ماكرون مع الأصول غير الفرنسية إلا تعبيراً عن مسار عام تحرّكه ما يشبه الدولة العميقة، حيث أن خطة العمل التي طرحها في تشرين الأول/أكتوبر 2020 حول النزعات الانفصالية لم تكن رداً على سلوك عرضي أو حالة استثنائية أو شاذة، وإنما كانت امتداداً لسياق لم يتمكّن الحكّام الفرنسيون من التخلص من تبعاته.
فالقيادات السياسية التي توالت على قيادة فرنسا كانت عاجزة عن تغيير واقع الحياة السياسية لدى المجتمع الفرنسي، لناحية عدم تمكّنها من إزالة ترسّبات صراع الهويات من نفوس الفرنسيين. وعليه، يمكن تفسير إرث الثورة الفرنسية، المتمثّل بالنظام العلماني على أنه لم يكن محاولة لفصل الدولة عن الدين، الذي كان متمثّلاً بالكنيسة في تلك المرحلة، وإنما محاولة لصوغ نوع من التوازن بين الطرفين.
فالتاريخ الحديث قد أثبت أن الدولة الفرنسية لم تكن حيادية أبداً تجاه الأديان كما تدّعي دائماً، وإنما بنت علاقات مميّزة مع الكنيسة على حساب ادعاء الحياد مع الآخرين.
عبر مسارها التاريخي، أنكرت الدولة الفرنسية للمواطن من الأصول غير الفرنسية حقه في المواءمة بين حقوقه كمواطن فرنسي وهويته الثقافية، حيث يعتبر البعض أنها ربطت الاعتراف بفرنسيّته بمدى تخلّيه عن هذه الهوية لصالح التوجّهات، كالمثلية وشرب الخمر وغيرها، التي تسعى من خلالها إلى إجهاض أي محاولة للحفاظ على تمايز مختلف عن النواة التي أسست الدولة الفرنسية.
في هذا الإطار، يمكن القول إن ما سعت إليه الدولة الفرنسية في مستعمراتها وفي الدول التي انتدبتها، حيث عمدت على سبيل المثال إلى تثبيت علاقة عضوية بين المؤسسات الدينية والدولة من أجل ضمان عدم تحقّق مشروع الدولة المركزية والمهيمنة، قد حاولت تلافيه على الأراضي الفرنسية حيث كانت وما زالت تسعى إلى إلغاء أي علاقة بين المواطن الفرنسي المهاجر وهويته الثقافية الأصلية.
وعليه، يمكن القول إن الدولة الفرنسية قد أهملت أثر التغييرات الديمغرافية التي طرأت على المجتمع الفرنسي، حيث بلغت نسبة الأطفال ذوي الأصول المهاجرة، الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و4 سنوات، نحو 40%، في حين يشكّل الفرنسيون من أصول مهاجرة أكثر من ثلث عدد السكان في فرنسا.
فإصرار السلطة في فرنسا على مقاربة علاقتها مع مجتمعها وفق منظور دوغمائي، يستند على مجموعة من أدوات القوة والسيطرة الشبيهة بتلك المتعارف عليها في الأنظمة المستبدة، قد ساعد على تكريس سلوك متجذّر في استخدام العنف غير المبرّر لدى أجهزة الدولة الأمنية.
فاستناد هذه الأجهزة إلى مفاهيم الشرعية التي سوّقت لها الدولة العميقة قد ساهمت في تعميق الشعور بالغبن والظلم لدى فئة الفرنسيين من الأصول المهاجرة، ودفعتهم إلى استخدام العنف المبرّر من ناحيتهم بردّ فعل طبيعي على عنف الشرطة، للتعبير عن رفضهم لواقع الحالة النمطية التي هدفت الدولة العميقة إلى تعميمها كسلوك طبيعي في مواجهة المهاجرين المصنّفين في الوعي السلطوي الفرنسي كخطر على قيم الجمهورية الفرنسية.
في هذا الإطار، يظهر خطأ الكيفية التي يحاول أصحاب القرار قمع الاضطرابات في فرنسا من خلالها. فالتركيز على مجرد إعادة الهدوء إلى الشارع والبحث عن المحرّضين المفترضين، والتوعّد بمعاقبتهم من دون محاولة البحث عن حلول لأصل المشكلة التي ظهرت على شكل تمرّد جزء من الشعب الفرنسي على قيم الدولة قبل القوى الأمنية، يوحي بتعرّض المجتمع الفرنسي لانقسام عموديّ قد يتحوّل في أي لحظة إلى حرب أهلية.
فالانتفاضة التي عبّر عنها المحتجون الفرنسيون تحت شعار "لا عدالة، لا مساواة" تدفع لتفسير الإشكالية التي تعترض التضامن المجتمعي الفرنسي تحت عناوين العنصرية والكراهية.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى رفض اعتراف الدولة الفرنسية بمحدودية مواردها، وضعف قدرتها في مجال ضمان أمن المجتمع، وتحقيق الانسجام بين مختلف فئاته.
فالمسار الذي تعتمده الدولة الفرنسية في سياساتها الخارجية، لناحية توسيع مجال تدخّلاتها في القضايا الدولية، وتقديم الدعم المادي والعسكري لدول وجماعات، كأوكرانيا أو الجماعات المسلحة في مالي ومنطقة الساحل الأفريقي، على حساب الاستثمار في الداخل الفرنسي. معطوفاً على رفض الدولة العميقة في فرنسا لأي محاولة لتحقيق دمج حقيقي للمهاجرين في منظومة السلطة والإدارة، حيث تكاد تكون محدودة جداً مساحة مشاركة الفرنسيين من أصول مهاجرة في عملية اتخاذ القرار.
وعليه، تظهر مقاربة السلطة الفرنسية لموضوع الاضطرابات على أنها خارج سياق الواقع، لناحية معالجة تداعيات المشكلة من دون الغوص في أسبابها. فالفوضى التي تعصف في شوارع وأزقة المدن الفرنسية ليست منفصلة عن واقع المجتمع الفرنسي المنقسم على ذاته حتى يتم التعامل معها كحدث يتطلّب معالجة موضعية، وإنما تُصنّف في إطار نتائج عدم قدرة السلطة والدولة في فرنسا على مواكبة التغيّرات التي تعرّض لها المجتمع والشعب الفرنسي لناحية التنوّع العرقي والديني الذي أصبح مؤثّراً.
فمن أساسيات استقرار الدولة والنظام وجود سلطة تضمن نوعاً من التمثيل الصحيح لفئات المجتمع، وهذا ما لا يتوفّر حالياً في التركيبة السلطوية الفرنسية.