لبنان: الوطن الممنوع
دوائر الفساد المُتَّسِعة منذ السنوات البكر لـ"الحريرية السياسية" لم تعد تكفيها الثروة المحلية، فراكمت الديون الخارجية والداخلية، وأوجدت لذلك "صناديق ومجالس"، على عدد المذاهب "الكبرى".
يوغل معظم الساسة اللبنانيّين في الفساد، من دون خوف. ربما، لإدراكهم أن المحاسَبة مستحيلة في لبنان. وتكمن استحالتها في تمترس في جوهر النظام العاجز عن أن يكون نظاماً بالمعنى التقليدي، أو دولة "الحد الأدنى"، لا "الهيكل" الذي يحتمي اللصوص بين ثغوره، بحيث يتقدّم الفساد كجامع وحيد، يُصيب السلطة والمجتمع، ويعبّد زواريب دويلات الطوائف. يؤمّن ديمومتها من جهة ، ويؤطّر تناقضاتها من جهة اخرى، بصناعة هويات ضيّقة، في طبيعتها قاتلة، على الارجح.
في "الجمهورية الأولى"، لم يكن الفساد منظَّماً، كما هي الحال في "جمهورية اتفاق الطائف". لكنْ، في كِلتا الحالتين، تمتَّع الفاسدون بطمأنينة نسبية. التجربة "الشهابية" الصارمة، والفريدة في الإصلاح، في الحالة الأولى حدَّت منها. لكنْ، سرعان ما انقضَّ عليها "النظام العميق"، إلى أن قضت بخسارتها الانتخابات البرلمانية عام 1968، حين انتصر مفهوم "الدويلات" على مفهوم الإصلاح والدولة، ليتبدّى بوضوح في عهد رئاسة شارل حلو، انكفاءُ "الشهابية"، ليس لأن خصومها أقوى منها، بل لأنها أغفلت معادلات المنطق والعلم؛ فلا يمكن بناء دولة بدستور "قَبَلي"، يُفْضي إلى مجتمع يراوح قبل الوطن، وأفراده يتيهون قبل المواطنة.
مُنع لبنان منذ قيامه من أن يكون وطناً. مؤسِّسوه الأوائل ارتكزوا على الخوف الثقيل، الموروث من زمن "المتصرفية". تحاصصوا ثروة حاضرة وأخرى مقبلة، وبنوا 18 دويلة شكّلت نظام الفوضى، أو نظام "اللانظام"، طغت من خلاله "المارونية السياسية" كوكيل محلي عن أجنبي. أدار مسألتين: الأولى: تكريس التناقضات ودفعها نحو مذهبية حزبية تُعْلي مصالحها فوق المصلحة الوطنية العليا. والثانية: انخراطها في لعبة "لبنان الدور"، التي تركت البلد معلَّقا في الهواء، في "المنطقة المفتوحة" على كلّ أنواع العواصف القارّية.
واصلت "الحريرية السياسية" تَكرار خطايا الماضي، وراهنت على تسوية الصراع مع "تل أبيب"، عبر طموح إلى استعادة "لبنان الدور". اغتيال إسحاق رابين بيد صهيوني متطرف، اسقط أوهام التسوية، لكن هذا لم يغير من سلوك ادارة البلاد ورهانتها. فتابعت سياسات "اقتصادية" هجينة، وأضافت إلى الفساد المقيم كثيراً من عندياتها. منح الفوائد (المتوحشة: 40%) على سندات مصرفية جريمة موصوفة بلا شك، لكنها، أيضاً، جريمة غير مسبوقة، فقلَّما وُجدت سلطات دعت مواطنيها إلى أن يأكلوا لحمهم، من دون إدراكهم، وحينها اغلب الظن، ضاعت ودائعهم و"تحويشة" العمر.
دوائر الفساد المُتَّسِعة منذ السنوات البكر لـ"الحريرية السياسية" لم تعد تكفيها الثروة المحلية، فراكمت الديون الخارجية والداخلية، وأوجدت لذلك "صناديق ومجالس"، على عدد المذاهب "الكبرى". وانخرط كل ممثّلي المذاهب، ومعظم القوى السياسية، في مشروعها، بأثمان متعددة. جعلت منها دكاكين في مركز تجاري، لا قوى حية في وطن، وموهوبة لأن تستثمر من كل خارج في السياسة والاقتصاد، وفيما هو أبعد من ذلك، في جمهورية سُمِّيَت ثانية، كأن لبنان بلغ الجمهورية الأولى في الأصل.
بعد نحو 15 سنة على "اتفاق الطائف" وقعت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فغاب عن "الحريرية السياسية" رأسها، لكن جسدها بقي حياً. وبرز بدلاً من الرأس الواحد لشراكة واسعة، عدةُ رؤوس لشراكة "مختصرة". والمدهش أكثر أن رموز الفساد تغلغلوا بين جماعتي 14 آذار و8 آذار. فالاختلاف في السياسة لا يُفسد في الفساد وِداً، على ما يَظهر.
انفجار 4 آب/أغسطس المأساوي، العام الفائت، هو انفجار الجمهورية، بمعنى فعلي لا رمزي. صواعق الفساد المتراكم تكفَّلت بمُهمة التفجير، فوق بنى تحتية سُحقت سلفاً تحت ثقل تزايد عدد السكان. لا منظومة الطوائف قادرة على استيعابه بعدُ، ولا "دكّان الدولة الريعية" يمكنه سدُّ الحاجات الأولية، أو المقاضاة في قضية، تُخفي خلفها آلاف قضايا الإدانة للسلطات الثلاث الرسمية، والتي تفرض محاكمة النظام الذي وقعت في متنه، وبرعايته، كلُّ الجرائم، وليس آخرها جريمة المرفأ. مسؤولية النظام عن هذه الجريمة لا تخفِّف بالتأكيد مسؤوليةَ رجال السلطة عنها. لكن جريمة بهذا الحجم تتطلَّب محكمة تاريخية، لا انتقامية تَشفي غليل جهة وتُشعل أخرى.
"انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر" عبّرت عن ضائقة اجتماعية متمادية، بلا ريب، لكنها سرعان ما خُطفت من سياقها المطلبي إلى سياقات سياسية، بإدارة "منظّمات المجتمع المدني" التي أجَّلت كل الهموم والأولويات، وعملت بوضوح على "شيطنة" جبران باسيل، من دون إظهار أيّ وثيقة، أو دليل بسيط على مزاعم الاتهامات.
التشويه هنا ليس لذاته. والمشهد أشبه بالإتيان ببريء والزجّ به بين مُدانين. إن رَدَّ العدوانَ عنه صعّدوا الحملات، وإن صَمَتَ بالغوا وطمعوا.
حين اندحر الاحتلال الإسرائيلي عن جنوبيّ لبنان في عام 2000، كانت الصورةُ الموازية لذل المنسحبين صورةَ التضامن بين اللبنانيين، والذي بلغ ذروة غير مشهودة. بعد ست سنوات، في "عدوان تموز/يوليو"، تمَّ امتحان الحاضن الاجتماعي للمقاومة، فأظهرت النتائج نمواً وصلابة متزايدَين، يستمدّان حيويتهما من "تفاهم مار مخايل" بين حزب الله و"التيار الوطني الحر".
يُراهن الذين يشنّون الحرب الاقتصادية على لبنان اليوم على "منظّمات المجتمع المدني"، للاضّطلاع بمُهمّات عجزت عن تحقيقها قوى لا يُستَخَفّ بها. الانتخابات البرلمانية العام المقبل ستكون "أمّ المعارك" لهؤلاء. سيرثون عدداً من مقاعد كانت محسومة لـ"جماعة 14 آذار". وسوف يستشرسون في المنافسة في "مقاعد المسيحيين"، وسوف تُفتَح مزاريب المال السياسي مجدَّدا، لكنه سيذهب إلى جيوب غير تلك التي اعتادها. وسوف ينبري منظّرون "هيتشكوكيون" لإطلاق "التحاليل" والشائعات من أجل تحميل ثنائي "الحزب والتيار" مسؤولية الانهيار، عنوةً.
قد لا تكون ردود فعل الثنائي (حزب الله_التيار) المذكور على الدرجة عينها من عنف الهجوم، ربما، لادراكهما أن المواجهة التي يخوضانها طويلة، وعلى نتائجها تترتّب قيامة لبنان الوطن، أو بقاؤه في خانة الممنوع.