قبل الانتخابات اللبنانية وبعدها: نيران المقاومة إلى ما بعد حدود "الخرافة الصهيونية"
تُنصت حكومة ميقاتي إلى كلّ إيماءة أميركية، بوصفها إشارة من "المجتمع الدولي" الذي يؤمل منه تجديد رعاية النظام الريعي؛ المسبب الرئيسي لضياع البلاد والعباد.
ينتظر اللبنانيون من الانتخابات البرلمانية المقبلة أن تشكّل خشبة خلاص لبلدهم الغارق في أزمة طاحنة تفرض عليهم الانخراط في لجة ما تشيعه قوى داخلية وخارجية عن أن نتائج الاقتراع ستسقط سلطة وترفع أخرى فوق "بساط الريح" على الأرجح، فقد بات الحديث عن العجز إزاء الانهيار يتطلَّب معجزة كي يفهم اللبناني رهانات من ينظرون إلى الانتخابات كواقعة لمفاعيل تحمل "المستقبل الواعد".
تصطفّ بقايا "جماعة 14 آذار" خلف الشعار الرنان، ولا سيَّما الأحزاب اليمينيّة من "الكتائب والقوات والأحرار"، إلى "اليسار الديمقراطي - النيوليبرالي" (معاً)، إضافةً إلى "مجاهدي منظمات المجتمع المدني"، الذين يحتلّون صدارة ترتيب الرهان الأميركي لإحداث تحوّل جذريّ، بعد ضحالة نتائج وكلائهم التقليدين في لبنان وعموم المنطقة المهرولة نحو تشكلات تعبّر عن متغيرات موازين القوى الدولية، والمتجهة نحو عالم متعدد الأقطاب فوق أنقاض الأحادية المتهالكة.
هامشيو هذا الاصطفاف يتطوعون في حملة التهويل والتهديد بـ"الاستحقاق"، ويخدعون أنفسهم بقصد خداع "داعميهم" الذين لا يحتاجون إلى دعوة لتكرار "مغامراتهم" في لبنان، لكنهم لا ينخدعون باستعراضات هؤلاء الهمايونية. ثمة تواطؤ بين الطرفين لغضِّ النظر عن خصوصية النظام اللبناني الذي سيجري تحت "دستوره" الاقتراع.
لم يتّعظ هؤلاء من تعطّل الحكم على مدى الأعوام الـ15 الماضية، التي تبدّلت خلالها حيازة الأكثرية النيابية بين الفريقين المتنازعين. مع ذلك، لامس الحكم الشّلل، كما تبدو اليوم حكومة نجيب ميقاتي عاجزة وغارقة في إعادة تدوير خطة "صندوق النقد الدولي" على الطريقة اللبنانية أو "الميقاتية" الخبيرة بإدارة الأعمال أكثر من الأوطان ربما.
تُنصت حكومة ميقاتي إلى كلّ إيماءة أميركية، بوصفها إشارة من "المجتمع الدولي" الذي يؤمل منه تجديد رعاية النظام الريعي؛ المسبب الرئيسي لضياع البلاد والعباد. حكومة كهذه، في ظرف مفصليّ، لا شكّ في أنّها تقصر الطريق على اللبنانيين نحو الكارثة. إنَّ افتراشها السيادة الوطنية كسجادة يدوسها "الأشقاء" في الخليج، بإجبار وزير الإعلام جورج قرداحي على الاستقالة، هو وصمة عار بلا ريب، لكنه أيضاً طلقة "رحمة" غير مقصودة في رأس "الجمهورية الثانية" المتصدعة.
كان يفترض بحكومة نجيب ميقاتي أن تكون حكومة تأسيسية، لا حكومة إدارة مزدوجة للأزمة والعملية الانتخابية، وكان عليها أن تفتح الأبواب أمام الأسئلة الجدية، لا أن تدبج أجوبة مسطحة إزاء أزمة عميقة بهذا القدر. ولم يعد من الجائز ممارسة فن المواربة أمام اللبنانيين الذين لم يُنهب شعب في التاريخ مثلما نهبوا، والمطلوب أمامهم الجرأة أكثر من الصراحة، والإعلان عن موت "اتفاق الطائف" هو أولى الخطوات الجريئة التي توقف خداع اللبنانيين بقدرة الانتخابات على أن تنهي مآسيهم، فالبلد قام على نظام مضاد لمفهوم الدولة الوطنية بالأساس، ويحتاج إلى الهدم لا إلى الترقيع، كما "الاقتصاد الحر" يحتاج إلى النبذ لا إلى الإصلاح.
تزايد الضغوطات المعيشية يُدار بدقة من قبل قوى الفساد العميقة في النظام اللبناني مع الرعاية الأميركية - الأوروبية المباشرة والإسرائيلية المتخفية، والتي لا مصلحة لها راهناً بأن تتدحرج الأزمة نحو "الانفجار الكبير"، أي الانهيار الكامل لبقية مؤسسات النظام، خوفاً من أن تقدم هذه الخطوة البلد هدية لحزب الله وحلفائه، لكونهم الطرف "الأقوى"، ما يفرض حسابات مختلفة على خطط "المهاجمين"، لكن ما هو ممنوع بـ"الجملة" قد يكون مسموحاً به في "المفرق"، عبر حروب صغيرة تكاد تكون يومية، وتؤدي وظيفة شبه مجانية وأكثر نجاعة من حرب كبيرة تحتاج إلى ممولين غير متوفرين الآن، وبعد تبديد ثروات أكلتها نيران الحروب على سوريا واليمن والعراق وليبيا وغيرها.
يسعى أصحاب "المشروع التغييري" لتحقيق استفادة قصوى من الهجوم الأميركي المفتوح على "الاقتصاد اللبناني"، ومن الدعم السخي لـ"دول التطبيع" في الخليج، ويعزز من طموحاتهم كون العملية الانتخابية ستجري تحت وطأة الضغوط الاجتماعية التي تسهل الوصول إلى ناخب جيبه مثقوب وأمعاؤه خاوية.
يصرّ هؤلاء منذ العام 2005 على تكرار تجاربهم الهجومية على السلاح المقاوم بشتى الوسائل المتاحة والمستنبطة، وجديدهم هو التركيز على تجويف فكرة المقاومة وتصويرها أداة خارجية، تحت سيل من الافتراءات والأكاذيب، "أحمقها" المطالبة برفع يد "الاحتلال الإيراني" عن لبنان، فالاحتلال بالنسبة إلى هؤلاء تكفيه المزاعم كي يقع.. لكن ما يستبطنه الشعار أعمق من ظاهره أو أكثر سفالة في ما يخفيه من اتهام لـ"لبنانيين" بأنهم يحتلون وطنهم، ولتحريره منهم لا بدّ من الاستعانة بـ"الشيطان الإسرائيلي" الطامح إلى تهجير سكان الجنوب وطردهم نهائياً من أرضهم وضمها إلى "إسرائيل".
بعد عدوان اغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري في العام 2005، جاء عدوان تموز في العام 2006 ليحقق الهدف الذي يسعى إليه الآن، مع فارق أن هجوم اليوم يوسع الجبهات ويستشرس بالتصويب على النقد والاقتصاد لتحقيق مآرب يعد معظمها ذا بعدٍ "أيديولوجي"، أكثر مما هو سياسات كلاسيكية معتادة، فالأهداف الأميركية في "البلد الصغير" تتجاوز حجمه، وتعيده بقوة إلى طاولة الصراعات الإقليمية والدولية، وتعدّه ليكون منصة لإدارة حضورها في الإقليم، و"ماكيت" بناء السفارة الأميركية في عوكر (13 كلم شمال بيروت) يقدم إيضاحات أكثر مما يطرح التساؤلات عن طبيعة البناء الضخم في المراحل المقبلة ووظائفه.
البعد "العقائدي" في التوجّه الأميركي ينطلق من رسوخ مسلّمة في استراتيجية "منظومة الاستعمار المتجدد" بوجوب حماية "إسرائيل" وضمان تفوقها العسكري كمّاً ونوعاً، لكن الحفاظ على هذه المعادلة تزداد صعوبته، ويقترب من الاستحالة في مواجهة معادلة الردع بدلاً من التفوق، وهو ما لم يكن بحسبان منظومة الهيمنة التي تعتبر المنطقة العربية مطواعة وعاجزة، ولم تكن تتوقع أن تطوقها المقاومة بإرادة فذة، وبنيران تطال ما بعد "أزقة الخرافة الصهيونية". هذا قبل أن تجري الانتخابات، وسيستمر بعدها، لكن بتعاظم في أقل تقدير.