"فيكتوريا – المتوسط".. طموحاتٌ مصريةٌ وواقعٌ جيوسياسيّ معقدٌ!
تهدف مصر، في أحد أهداف المشروع التنمويّ الأفريقيّ، إلى ضمان تدفّقات منتظمة لنهر النيل.
مشروع ممرّ التنمية "فيكتوريا – المتوسط" هو مقترحٍ مصريٍّ لتدويل نهر النيل وتحويله إلى "مجرى ملاحيّ دوليّ" بطول 2500 ميل / 4000 كم، يُمثل في جوهره رؤية مصر لحلّ أزمة سدّ "النهضة" أو الخيار الأكثر عقلانيةً راهناً، من خلال رؤية "قارة واحدة، نهرٌ واحد، مستقبلٌ مشترك"، الذي يرفع شعار "أفريقيا دون حدود"، إضافةً إلى كونه جزءاً من مبادرة طريق "القاهرة/الإسكندرية - كيب تاون"، الذي يأمل القائمون عليه ربط جنوب أفريقيا بشمالها تحت مظلة "الكوميسا" (السوق المشتركة لشرق أفريقيا وجنوبها)، انطلاقاً من مبدأ ربط اقتصادات دول حوض النيل بعضها ببعض، لتقليل حجم الخلافات بين دول الحوض النيل (11 دولة).
ورغم استثناء إثيوبيا من المشروع، بسبب الميول العنيفة للنيل الأزرق وغير المناسبة لحركة السفن، فقد طالبت في اجتماع "الكوميسا" في شباط/فبراير 2016 بالمشاركة في المشروع من خلال نهر "البارو" بدلاً من النيل الأزرق.
وتهدف مصر، في أحد أهداف المشروع التنمويّ الأفريقيّ، إلى ضمان تدفّقات منتظمة لنهر النيل، وعدم احتكار إثيوبيا لحجم تدفّقاته المائية وتوقيتها، وذلك من خلال إطارٍ إقليميّ وقاريٍّ يحكم مجرى النيل ويؤطّر مبادرة الممر التنموي "فيكتوريا – المتوسط".
مقترح المشروع المصريّ تم إدراجه في قائمة المشاريع ذات الأولوية في برنامج البنية التحتية في أفريقيا، وطرحته مصر لأول مرةٍ في العام 2013، وتحديداً في كانون الأول/ديسمبر 2013، وأطلقته الحكومة المصرية و"وكالة النيباد" حينذاك (الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا).
ويشمل تكامل النقل المتعدد الوسائط أقساماً على طول الطريق السريع العابر لأفريقيا (كيب تاون - القاهرة، لاغوس - مومباسا، داكار - نجامينا - جيبوتي والقاهرة - داكار)، وخطوط السكك الحديدية المختلفة، وكذلك الموانئ الكبرى في الإسكندرية وقناة السويس ومومباسا ودار السلام.
وتقدّر كلفة المشروع بـ 12 مليار دولار أميركي، يأتي جزءٌ منها من بنك التنمية الأفريقي. ووفقاً للخطة، من المفترض أن ينتهي المشروع في العام 2024، إذ دخلت دراسات الجدوى المرحلة الثالثة والحاسمة له.
عرضت جمهورية مصر هذا المقترح مؤخراً، وظهر إلى الإعلام العالميّ بشكلٍ مكثفٍ من خلال مناقشته مع الولايات المتحدة، وذلك خلال لقاء وزير الموارد المائية والري المصري محمد عبد العاطي خبيرَ المياه لدى الإدارة الأميركية (إدارة جو بايدن) ماثيو باركس (20 تشرين الثاني/نوفمبر 2021)، ونائب السفير الأميركي في القاهرة نيكول شامبين، إضافة إلى ممثلين آخرين عن السفارة الأميركية.
ويهدف المقترح إلى تحويل نهر النيل إلى شريانٍ ملاحيّ يربط بين دول حوض النيل، ويمتد من البحر المتوسط إلى بحيرة فيكتوريا (المنبع الرئيسي لنهر النيل، وتقع في شرق القارة الأفريقية بين تنزانيا وأوغندا وكينيا)، ويضمّ ممراً ملاحياً وطريقاً بريّاً، وخطّ سكّة حديد، إضافة إلى عملية ربطٍ كهربائيٍّ و"كابل" معلومات، بما يضمن تحقيق التنمية الشاملة للبلدان المعنية.
تم الانتهاء من الدراسات المؤسسية والقانونية، إلى جانب الاحتياجات التدريبية لمرحلة دراسة الجدوى، بمنحةٍ مقدمةٍ من بنك التنمية الأفريقيّ، تقدر بنحو 650 ألف دولار أميركي. وتمت الموافقة على هذه الدراسات في الاجتماع الرابع للجنة التوجيهية للمشروع في تشرين الأول/أكتوبر 2018.
وأوصت اللجنة بإنشاء وحدتين لإدارة المشروع خلال المرحلة المقبلة؛ الوحدة الأولى تشمل دول النهر الرئيسي (مصر -السودان - جنوب السودان - إثيوبيا - أوغندا)، ومقرها مصر، وتضم الوحدة الثانية روافد النهر (أوغندا - تنزانيا - كينيا - جمهورية الكونغو الديمقراطية - رواندا - بوروندي)، ومقرها أوغندا.
ويُعدّ هذا المقترح رائداً في مجال التكامل الإقليميّ، وربما هو رؤية عقلانية سياسية واستراتيجية لمجمل المشاكل الجيوسياسية في حوض النيل، ودعم لمسار حوار الثقافات، بدلاً من صراعها أو استثمارها في صراعات استراتيجية وجيوبولتيكية دولية تُضيف تعقيداً إلى مجمل الوضع المعقّد أصلاً في دول حوض النيل المأزومة بغالبها، ولكنّه كغيره من المشاريع المطروحة للتكامل الإقليميّ يتمتع بمزايا رائدة، كما يعاني كذلك من عيوبٍ أو ثغراتٍ ربما تنسفه أو تعوق مساره، إذ يُعدّ النقل النهري بين الدول من أفضل الوسائل القادرة على نقل حركة التجارة بمختلف أنواعها وأحجامها بكلفةٍ منخفضةٍ واستهلاكٍ أقلّ للطاقة، ومعدلات أمانٍ أعلى مقارنةً بوسائل النقل الأخرى، بحيث يتم التكامل مع وسائل النقل الأخرى، إضافة إلى دور المشروع في دعم حركة التجارة والسياحة بين الدول المشاركة في ما بينها ومع دول العالم، والعمل على توفير فرص العمل، وتأمينه منفذاً استراتيجياً إلى البحار الإقليمية، ولا سيما الدول الحبيسة من حوض النيل، للاتصال بالبحار والموانئ العالمية.
وإذا كانت تلك بعض مزايا المشروع المصريّ المقترح، إلا أنّ عيوباً كثيرة ما زالت تعوق فرص نجاحه، وأهمها الجدوى السياسية والاقتصادية. بالنسبة إلى الجدوى الاقتصادية، فهي تعد - مبدئياً - بالنسبة إلى هذا الممر "منخفضةً"، نظراً إلى كلفته المادية المرتفعة، وخصوصاً تلك المرتبطة بتجاوز التعقيدات اللوجستية على طول المجرى الملاحيّ لنهر النيل، والمتمثّلة بالسدود والمستنقعات وغيرها من التحديات والصعوبات الجيولوجية، كتنظيف النهر، وصلاحية الممر النهري للملاحة، بمعنى انخفاض منسوب "الغاطس" في بعض المناطق المنخفضة المنسوب، وتقوية الجسور، وإنشاء أرصفة وموانئ جديدة في الدول المشاركة، وربط الممرّ بشبكات السكك الحديدية، فمسألة إعادة تشكيل طبوغرافية النهر هي مسألة مكلفة ومعقّدة هندسياً، إضافةً إلى "أنّ تنوع وسائل النقل، من وسائل نهريةٍ إلى بريةٍ، على طول المجرى المقترح سيعقّد المشروع، ويرفع كلفته المادية، ويخفض الجدوى الاقتصادية من تنفيذه".
ولكن من جهةٍ أخرى، يمكن للمشروع أن يفعّل المزايا التنافسية للنقل النهريّ في النيل من حيث توفير الوقود للنقل البديل، ويقلل كلفة صيانة الطرق، كما يقلل الاختناقات المرورية والتلوث البيئي الناتج من وسائل النقل الأخرى، وكذلك تهيئة بيئة الأعمال لفتح أسواق جديدة للاستثمار بين دول حوض النيل.
أما بالنسبة إلى الجدوى السياسية، ففي غياب آليةٍ واضحةٍ متفق عليها أو معاهدةٍ دوليةٍ لدول حوض النيل بشأن الملاحة في النيل، يُعدّ المشروع التنموي الجديد (فيكتوريا – المتوسط) مبادرةً مقترحةً أكثر من كونها مشروعاً استراتيجياً.
وإذا كانت مسألة الملاحة في الأنهار الدولية حالياً لا تثير أيّ مشكلاتٍ ذات أهميةٍ، بعدما ترسخت قاعدة حرية الملاحة عرفياً في الأنهار الدولية القابلة للملاحة، وبموجب اتفاقيات خاصة، فإنَّ الأنظمة القانونية لبعض المجاري المائية ما زالت تتميز بعدم الوضوح وانعدام الاستقرار، كما هو الحال في دول حوض النيل، الأمر الذي يتطلب توقيع جميع الدول المعنية بالمشروع التنموي الجديد على اتفاقية برشلونة في 20/4/1921 حول نظام الأنهار القابلة للملاحة، أو إيجاد نظامٍ قانونيٍّ خاصٍ للملاحة النهرية في نهر النيل.
وفي ظل الحروب العرقية، والصراعات القبلية، والاختلافات السياسية في كثير من دول حوض النيل، بات التهديد الأمني المنبثق من الاختلافات السياسية هو المعوق الأكبر لأمان المشروع وحركة التجارة البينية والعالمية إلى وجهتها الآمنة، وهو ما يضعف المشروع، ويفقده الثقة الدولية والإقليمية اللازمة للاستثمار فيه، الأمر الذي ينعكس على جدواه الاقتصادية.
في الختام، يبقى التذكير أنّ تقاسم المياه على نهر النيل أو الملاحة فيه ستمثل فرصاً لنزاع خطر، بغياب إرادة التعاون بين دول حوض النيل. وقد أُطلقت في دار السلام في شباط/فبراير 1999 مبادرة حوض النيل، وهيّ اتفاقية تضم مصر والسودان وأوغندا وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية وبوروندي وتنزانيا ورواندا وكنيا وأريتريا.
وفي شباط/فبراير 1999، تم توقيع مبادرة حوض النيل بين دول حوض النيل العشر، بهدف تدعيم أواصر التعاون الإقليمي بين هذه الدول، ولكنَّها لم تستطع حل الخلافات المتعلقة بالمياه أو الحدود أو الصراعات العرقية، إذ تتعدّى النزاعات السياسية والعرقية بين هذه الدول 26 نزاعاً.
وعلى الرغم من وجود أكثر من 10 اتفاقيات لمياه النيل، فإنها اتفاقيات ثنائية أو ثلاثية، وبالتالي، لا توجد اتفاقيةٌ شاملةٌ بين دول حوض النيل. وبناء عليه، إنّ عدم وجود إطارٍ قانونيّ منظمٍ سيؤدي حكماً إلى زيادة الصراعات الدولية المحتملة بين دول حوض النيل. ومن جهة ثانية، تُعدّ هذه المنطقة الجيوسياسية مركزاً للتدخل الدوليّ الذي يعقّد كلّ فرص الاستثمار العقلانيّ المتكامل لنهر النيل بسبب تضارب المصالح الدولية.