غزة وفلسفة التعاطف: هل تسمح لي بأن أكسب غضبك رجاءً؟
من أجل أن يفوز في حرب السرديات، هل على الفلسطيني أن يحمل التاريخ معه أينما ذهب. وعليه كذلك أن يصرخ دائماً ويقول: تعالوا، انظروا، تعاطفوا معي. هذا جرح حقيقي. ما هذا الإحباط؟
"كيف يمكن التحدث عن تدخل ما بعد الصدمة في غزة عندما لا يزال الناس في حالة من الصدمات المستمرة؟".
المتحدث السابق باسم منظمة "أوكسفام"، كارل شمبري
قد يكون من المفيد أن يدرس علماء النفس حالة الناس في قطاع غزة، وأوضاعهم النفسية، ومستوى دقات قلوبهم، وأوجاعهم، وهواجسهم، وأموراً أخرى. فالمصائب، التي تتوالى على رؤوسهم، تقع باردة بسبب كثرتها. وأًصبحت، مع التجربة والمراكمة، جزءاً من تركيبة هذا القطاع. الصدمات ولّادة في غزة. يرحل عدوان، فيطل برأسه آخر. ديمومة عتادها الناس حتى اكتسبوا مهارة الصبر، ثم مهارة اعتياد خسارة الأشياء.
منذ بداية "طُوفان الأقصى"، والخسارات في القطاع تنمو عمودياً. الخسارات هناك تُبنى وتكبر بينما يصغر ويُهدَم كل شيء. شهيد تلو آخر، بيوت تُهدَم، وعائلات تُمحى من السِّجِلّ المدني، كما لو أن هناك أحقية لأحد في أن يُبيد أحداً، ليس بسبب سوء حظه، بل لأن للعدو عقيدة مبنية على قتل الآخر المغاير، فكيف إن كان هذا الآخر فلسطينياً، صاحب الأرض، ويحمل في يده تاريخاً وحجة. تحتاج هذه الزاوية إلى تفصيل أكبر في التاريخ والجغرافيا كذلك، وفيما يخصها حديث يطول.
تميزت معركة "طوفان الأقصى"، التي بدأت في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بأن الحقائق موثقة في أغلبيتها. العالم يشاهد أكثر الوقت ما يحدث، صوتاً وصورةً. ومع ذلك، لا يزال باب النقاش مفتواًح بشأن الوضوح، لا بشأن الرؤية. مشاهد مذابح وقتل ودمار وإبادات تعرّض لها الفلسطينيون رآها العالم، ولم يُبد تعاطفاً، بينما تعاطف مع قصص سمع بشأنها ولم يرَها. ماذا يحدث؟
الغرب يبكي على أطفال لم يُقتلوا
بمجرد بدء ارتكاب "إسرائيل" المجازر ظهرت اصطفافات الناس على مستويَي السياسة والمبادئ، وفيما خص المشاعر كذلك. ظهر الحزن وطغى التضامن. سمعنا صوت البكاء، رأينا السخط وشعرنا بالقلق. خلطة من المشاعر انتشرت بالتزامن مع انتشار أخبار الموت، لكن اللافت كان المشاعر الانتقائية الغربية.
ارتكب العدو مجزرة في المستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، راح ضحيتها أكثر من 500 شهيد في غزة. وفي التوقيت ذاته، بعد دقائق من المجزرة، قال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إن واشنطن تدعم حق "إسرائيل" في "الدفاع عن نفسها".
إعلان بلينكن سبقته قصة هوليوودية للرئيس الأميركي جو بايدن، نقل فيها، عن الصحافة الإسرائيلية، قولها إن "حماس قطعت رأس 40 طفلاَ". لا يوجد مسرح لهذه الجريمة إلا في العقل الإسرائيلي، ولم تحمل هذه الرواية أي عناصر لترتقي إلى قصة. لم نرَ صوراً معدّلاً عليها حتى. لم يكّلف الإسرائيلي نفسه هذا العناء. هو قال فقط، وأقواله لها "صدقية" في العالم الغربي، الذي يعتمد على الحقائق والأدلة، إلا فيما يخص "إسرائيل". كأن "إسرائيل" قادرة على خلق خيال خاص بـ "المأساة" في عقل كل من أوروبا وأميركا. ألم يكن الأمر مماثلاً على مستوى "الهولوكوست"؟
دحضت صحف عالمية كبرى هذه الرواية. ربما أبرزها صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، التي نقلت عن متحدث باسم البيت الأبيض قوله إنه "لا الرئيس بايدن ولا أي مسؤول أميركي، رأى أي صور أو تأكد من صحة تقارير بشأن ذلك، بصورة مستقلة".
غير مهم، في أي حال، فالأميركي يرى ما يريد أن يراه، وكذلك الفرنسي، إذ هرول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى "إسرائيل" معلناً أن هؤلاء الفلسطينيين يجب أن يموتوا بطريقة أكثر أناقة، على الطريقة الفرنسية ربما، التي أتقنت تعليق مقاصل، وتفننت في قطع الرؤوس في الجزائر، وكانت من أوائل الدول التي مارست هذه الطقوس.
في المقابل، كانت الصور تصل واضحة إلينا من غزة. مشاهد الدمار وقتل الرضّع والأطفال، وإبادة العائلات، ظهرت جليةً في وسائل الإعلام والتواصل. رأى العالم آلاف القصص الفلسطينية، التي لن تكتمل بعد اليوم. دُفنت في الحارات والطرقات، وتجاوزنا 10 الاف شهيد والحرب والإبادة مستمرتان.
يتعاطف العالم الغربي مع الحيوانات، مع الطيور والكلاب، ويلوم الأشرار، الذين لا يعاملون القطة مثلاً، بطريقة ملائمة. يشرّعون أبواب الشذوذ الجنسي، ويطالبون بإعطاء الحقوق والاعتراف بمجتمع "الميم". ويرفعون الصوت للمساواة بين المرأة والرجل، وتشريع الحق في الإجهاض واختيار "الجندر" وأمور أخرى. لكن، لا يتعاطفون مع بشر يُبادون وتعرض الشاشات أشلاءَهم. كيف ذلك؟
التعاطف الانتقائي
يعرَّف التعاطف بأنه القدرة على المشاركة في مشاعر الآخرين وفهمها. وهذا بالتحديد ما لم يحدث للفلسطينيين منذ وقت طويل، منذ ما قبل "طوفان الأقصى". تخيّل أن عائلتك تموت بين يديك مثلاً وأنت تقول للعالم: حاوِلوا رجاءً فهم مشاعري. أن تكون فلسطينياً، يعني أن عليك الشرح وتبرير جرحك المفتوح أمام العالم.
بعد يومين على عملية "طوفان الأقصى"، نشر الموقع الإلكتروني لمجلة "صحة المرأة"، ومقرها نيويورك، بعض التعليمات تحت عنوان "كيف تتعامل مع صدمة الصور ومقاطع الفيديو العنيفة لهجوم حماس على إسرائيل". ينقل المقال عن أحد علماء النفس السريريين في نيويورك الأسباب التي قد تجعل من المزعج للغاية رؤية صور عنيفة في وسائل التواصل الاجتماعي. ويتضمن بعض التوجيهات التي تمكّن المرأة من تجاوز صور قد لا تراها.
يُسهب المقال في حث القرّاء على كيفية تجنّب الصدمة. السؤال هنا: لماذا قد يعيش سكّان الولايات المتحدة صدمة “غير مباشرة"؟ وكيف تتفوق الصدمة غير المباشرة، والتي "يعانيها" الشعب الأميركي، بصورة متقطعة، على الصدمة المباشرة التي يعانيها الأشخاص، الذين تشن عليهم "إسرائيل" حرباً دائمة؟
كيف تحاول العقلية الأميركية شرح خطوات الصحة النفسية للمواطن الأميركي من جرّاء مشاهدة مجازر في بلد ما، لكنها لا تدعوه إلى التعاطف مع الضحية، بل على العكس تدعم القاتل، وتغذي شهيته في ارتكاب الجرائم، وتلوم الضحية على الصراخ.
من أجل أن يفوز في حرب السرديات، هل على الفلسطيني أن يحمل التاريخ معه أينما ذهب. وعليه كذلك أن يصرخ دائماً ويقول: تعالوا، انظروا، تعاطفوا معي. هذا جرح حقيقي. ما هذا الإحباط؟
أن تُضطر إلى التحدث باستمرار عن المآسي والفظائع، ثم تسأل في النهاية: هل هذه المعاناة مفهومة ومقبولة لديكم؟ هل تسمح لي بأن أكسب غضبك رجاءً؟ يريد العالم من الفلسطيني، من أجل أن يكتسب التعاطف، أن يثبت براءته. في الأساس، الفلسطيني رجل عنيف ويستحق العنف، الى أن يثبت العكس. وموته يمكن الدفاع عنه حتى يثبت العكس. لا تُعَدّ المذبحة مذبحة إذا كان أولئك الذين يتم ذبحهم يحاولون المقاومة.
في طوفان الأٌقصى، يحاول الناس، عن غير قصد أو اتفاق، تفحص الجثث التي تتكدس في غزة، يتفحصون الأضواء الخافتة لهواتفهم، ويصورون الجثة في غير موضع، للتصريح بأنها طفل. انظرْ أيها العالم، هل ترى؟ إنه طفل.
مهمة لا تُطاق. وجود الفلسطيني بات يمثّل إهانة وجودية للاحتلال. فما دام الفلسطيني في قيد الحياة فهو يتحدى السردية الإسرائيلية، والسردية الغربية من وراءها، ولا سيّما الموجودون من العجائز، والذين يكبرون كيان الاحتلال بأعوام، هم جزء من التعطيل.
يتعاطف العالم الغربي مع الإسرائيلي بـ"الفطرة" والمصلحة وحرب اللوبيات، ويتعاطف معه اليوم لأنه يسمع صفّارات الإنذار، بصورة دائمة، وهذا مثير للقلق، وللإزعاج أيضاً. وهو، في المقابل، لا يريد النظر إلى آلاف المجازر وأدوات القتل، والدماء الفلسطينية التي تسيل في الشوارع.
أمّا عُقدة الذَّنْب، التي قد تتملّك البعض الذي يساهم ويحرّض ويسكت ويركن إلى الموقف الرمادي المخزي، فسيتم التعامل معها بالتأكيد، ربما بعد الانتهاء من إبادة جميع الفلسطينيين.