عن الدمار المحيط بنا.. هل يمكن أن نعتاد مشاهد الموت؟
مئات الملايين من الدولارات دُفعت، ليس من أجل التطبيع السياسي، إنما في معركة الألفة مع "إسرائيل" لغزو عقول الشباب في العالم العربي.
مآسٍ ومجازر وصرخات ودمار ودماء ودموع؛ يمكن أن نستعرض مئات الصور والمشاهد لما يحدث في غزة، وتحضر معها كل المشاعر التي رافقتنا خلال الأسابيع الماضية، إذ كانت تسقط يوماً تلو الآخر كل القيم الإنسانية والأنماط الحضارية أمام الوحشية الإسرائيلية.
لقد أسقطت "إسرائيل" أشهر مقولات الحروب، وهي أن "الضحية الأولى لأي حرب هي الحقيقة"، ففي هذه الحرب كانت الحقيقة حية وجلية. أما الضحية الفعلية فهي الإنسانية والأخلاق ضمن ضخ علني ومكشوف من الإجرام وضعنا خلال أيام أمام جرعات مكثفة من المشاعر والأفكار الصادمة والقاسية.
الحرب هي أدرينالين الإعلام، وهي بطبيعة الحال حالة عالية من التوتر واللااستقرار النفسي والذهني. كل ما يسبق يقتضي التنبه والحذر خلال الحرب من أن نكون ضحايا لما يسمى "التخدير الإعلامي"، وهو نظرية صاغ شكلها للمرة الأولى واحد من أشهر باحثي الاجتماع والإعلام بول لازارسفيلد، تقول إن إغراق الناس بمادة إخبارية وفق صورة متكررة يؤدي بهم إلى عدم المبالاة والاكتفاء بالمعرفة عوضاً عن فعل شيء بشأن موضوع القضية.
في أصل تسمية هذه النظرية بالإنكليزية Narcotizing dysfunction، فإن كلمة اختلال تشير إلى أن كلاً من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تستنفر بطبيعتها أثناء الأحداث الكبرى، وأن الناس يعيشون حالة من الخلل الوظيفي المخدر، إذ يتعرضون لمعلومات كثيفة حول المشكلة. من هنا تبدأ دوامة الخدر، إذ يعتقد المتلقي، ولأنه على دراية بالقضية، أنه يساهم في حل هذه المشكلات. وكلما قضى وقتاً أكثر في التعرض للمعلومات بشأن القضية الحالية، ينقص الوقت لفعل شيء ما.[3]
كيف نصبح ضحايا لـ"التخدير الإعلامي"
في الواقع، يمكن ترجمة النظرية أعلاه وفق عدة فرضيات، من بينها:
المعرفة هي العمل
الإنسان في علم الاجتماع يترجم المعرفة إلى عمل من دون قصد، وبالتالي يرتاح ضميره ويعتقد أنه فعل شيئاً لمعالجة القضية لمجرد مواكبته كل تفاصيلها، إذ يميل الأشخاص إلى الاعتقاد بأن الأفراد المطلعين بكثافة على موضوع ما هم فاعلون فيه بالضرورة، لكن كونك على اطلاع أو على انخراط نفسي وشعوري ليس بديلاً من العمل الفعلي.
المعرفة ثم العمل
هنا، يدرك المتلقي أن المعرفة شيء، والتجاوب شيء آخر، وبالتالي هناك خطوة لاحقة تقتضي العمل. وإذا لم تتحقق خطوة العمل لصعوبة المشكلة أو تعقيدها، فإن المتلقي يصاب بنوع من الإحباط والخمول والخدر والرغبة في الهرب من هذه المأسي كآلية دفاعية يقوم بها الإنسان أمام استمرار "إسرائيل" في شن مئات الغارات الجوية ومشاركة مشاهد الدمار والإصابات والأشلاء، ما يترك العالم أمام حالة من الصدمة والحزن على مدار الساعة والدقائق.
ولا شك في أن النيات الإعلامية لمن يكثف نقل الوقائع والأخبار تفترض أن كثرة الشحن ستؤدي إلى الانفجار، لكن كثرة استثارة العواطف تؤدي أيضاً إلى نوع من الإثارة العاطفية. لذا، إن المرء قد ينتهج آلية دفاعية بحماية المشاعر غير المهيأة لهذا القدر من العنف والإجرام.
هل تجاوبنا مع أخبار القضية الفلسطينية يقع ضمن نطاق النظرية؟
يمكن الاستفادة من هذه النظرية لفهم بعض ما جرى معنا خلال الأسابيع الماضية، ويمكن الاستناد إليها بلا شك، إلا أنّ تبنيها تماماً غير ممكن، فعوامل الاختلاف مع افتراضات هذه النظرية والقضية الفلسطينية كثيرة وجذرية:
1- القضية الفلسطينية أصيلة في الوجدان الشعبي العربي. وهنا، نحن لا نتعرض لحجم كبير من المعلومات الجديدة والمربكة، ولكن لـكم هائل من المشاعر المكثفة، وبالتالي نحن لسنا ضحايا "الإجهاد العقلي". وهنا، نكون قد نفينا أحد جناحي النظرية.
2- يحدث التخدير الإعلامي عند المشاهدين في الحروب الطويلة، إذ يفقدون اهتمامهم ودهشتهم مما أمسى خبراً يومياً معتاداً ومتوقعاً، ولكننا إلى اليوم، ورغم كل ما جرى ويجري على مدار العقود الماضية، أثبتنا أن الاعتياد لم يتحول إلى تقبل أو استسلام.
3- على الرغم من أن وسائل الإعلام العالمية والكبرى تبدو كأنها تدار من "غرفة الأخبار عالمية"، وهذا واقع يبرهن يومياً،[4] فإنَّ هناك فكرة مهمة، وهي أن الإعلام لم يصنع الرأي العام في القضية الفلسطينية، فالنظرية تعول على دور وسائل الإعلام والاتصال في تخدير الجمهور وصناعة الرأي العام. أما في حالتنا الراهنة، فقد فرض على وسائل إعلام كثيرة أن تلتحق بنبض الجمهور وليس العكس، بل إن بعضها حاول في البداية ويحاول إلى الآن تجاهل ما يحدث.
يمكن لنا هنا أن نقارن بين نموذجين في التعاطي، إذ اجتمع العالم الغربي بكل كياناته ومؤسساته لدعم أوكرانيا، وجرت محاولات الضغط السياسي من الحكومات لصناعة رأي عام، لكن الفرادة في قضية فلسطين جاءت عكسية، فرغم كل محاولات كل الكيانات والمؤسسات والدول لنزع النسيج الأممي والإنساني والحقوقي من القضية الفلسطينية، اتضح أنَّ المصاب واحد وعابر للحدود. هذه الميزة تؤرق الغرب بتفردها وتجذرها.
4- عندما سُئل أمبيرتو إيكو عن وسائل التواصل الاجتماعي، قال: "هذه وسائل صنعت لتقود جميع الأغبياء في اتجاه واحد". حسناً، ثمة قول آخر أسقطته القضية الفلسطينية، فخلال السنوات الماضية، كان الشعب يتعرض لتغريب وعيه ولسانه وإغراقه بكل أساليب التسلية واللعب والكسل الفكري والثقافي والاغتراب الحضاري لفائدة النموذج الغربي.
وقد بات النموذج الغربي متقدماً في تصدير ثقافة التبشير بمبادئه وأفكاره. مئات الملايين من الدولارات دُفعت، ليس من أجل التطبيع السياسي، إنما في معركة الألفة مع "إسرائيل" لغزو عقول الشباب في العالم العربي، ثم بعدد قليل من الطيران الشراعي تنهار كل تلك المساعي، وهذا بالمناسبة ظهر سابقاً في انتفاضة وسائل التواصل الاجتماعي في مواجهة حي الشيخ جراح 2021.
استراتيجيات المواجهة الإعلامية
تبنى معالجة الأخبار والمعلومات إعلامياً على ركنين؛ الإثارة العاطفية أو الإقناع الذهني. وهنا، لا بد من أن نركز على عدة جوانب ونتنبه لها في أخبارنا:
1- الاقتراب أكثر من القصص
حتى لا نتحول إلى عدّاد لعدد الضحايا، علينا أن نقدم إضاءة على حياة من فقدوا أحبتهم وكيف تحولت حياتهم أو الذين فقدوا حياتهم وتفاصيل يومياتهم. هذه التغطية قادرة على أن تحدث فرقاً. وأتعمّد هنا أن أذكر بعض الجمل التي رافقت ساعات التغطية الإخبارية التي لم تتوقف لحظة؛ تلك الجمل التي تحفر في الذاكرة والوجدان والعقل:
"يوسف! سبع سنين شعره كيرلي وأبيضاني وحلو! بدي يوسف".
"سامعني يا عمر! احك باسم الله! سامعني قول ورايا أشهد ألا إله إلا الله… علّي صوتك حبيبي".
"بدي شعرة منو…مع السلامة يا عمري".
"صفوا الدار… كان يزعق علي يا كمال يا كمال! كان عايش والله".
"الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا".
"السبعة مع أمهم… السبعة مع أمهم".
"أربعين سنة بشتغل عشان ابني الدار… راحت! فدا فلسطين".
"ما تخافش يابا…أنا كويس يابا".
"هذه مرح بتحب الرسم كانت! وهذه بيسان دكتورة… هذولي بنات اخويا".
"ايش عملت لهم هذه البنت الصغيرة… قعدت شهرين وراحت".
"آه بتنتقموا منا في الأولاد... معلش".
"هي ماما.. بعرفها من شعرها".
"شكرا يا إسعاف.. بنحبكم كتير".
2- عدم الاكتفاء بالاطلاع والمعرفة، فالسرد فقط يصيب العقل بالكسل. وعلى الرغم من الدور المهم والمؤثّر الذي أداه الإعلام، وخصوصاً في السوشال ميديا، في فضح الانتهاكات الإسرائيلية والإجرام، فإن علينا أن ندرك أن الضجيج الإعلامي غير المدروس سيخلق حالة من التعوّد عند الناس إذا طالت هذه الحرب.
ومن الممكن أن تفقدهم هذه الحالة الاهتمام والرغبة في التحرّك أو على الأقل اليأس منه. لذا، البحث الدائم نوع من التحدي الذهني، وأسوأ ما يمكن أن يحدث هنا هو تراجع تحرك الرأي العام، وتراجع الرغبة في التدخّل من خلال المنشورات في مواقع التواصل أو التظاهرات أو حركات المقاطعة أو تراجع الإيمان بالتأثير.
الاختلال الكبير بين الشمال والجنوب لم يسبق أن كشف نفسه كما اليوم، وبالتالي نحن أمام تحدي تقديم سرديتنا، على الرغم من أن مسألة أهمية أن يعلم العالم بما يحدث لنا يمكن أن تخضع للنقاش حول جدواها، ولكنها على الأقل مفيدة لنا ولشعورنا بأننا نفعل شيئاً ما قبل أن نفكر في الرأي العام العالمي، ثم لا بد من الإيمان بجدوى وتأثير التراكم كلمة كلمة وفعلاً فعلاً.
3- في حين تؤدي منصات الإعلام والتواصل الاجتماعي دوراً حاسماً في إبقاء الناس على اطلاع، تعلو منها أيضاً تحذيرات من علم النفس من أنَّ الأشخاص الذين يتعرضون "للصدمات السلبية" من خلال التعرض المتكرر للصور قد يعانون مما يعرف باسم "الإرهاق والضيق التعاطفي" empathy fatigue -compassion fatigue [5]، الذي يمكن أن يؤدي إلى مستويات عالية من القلق والضيق، ما يجعل الشخص يشعر كما لو كان في حالة تأهب قصوى. خلال هذه الحالة، يعتقد دماغنا أنه في وضع غير آمن ويجتاحه القلق أو الغضب أو الحزن.
ومن هنا، قد تخرج أصوات تتحدث عن الصحة النفسية وضرورة أخد استراحة من الأخبار كأمر ضروري. قد يفهم مثلاً موضوع الحاجة إلى الحد من التعرض لمقاطع الفيديو المؤلمة، لكن مسألة الابتعاد عن قراءة الأخبار والانخراط العاطفي معها يبدو نوعاً من الترف الغربي، كأن القضية لا تمس أمننا المباشر، ولا يجب أن نفكر في هذه المعركة كمعركتنا الخاصة، فنحن لسنا مراقبين في هذه الحرب. إنها حربنا وكياننا، ووفق علم النفس التي تستند إليه هذه النصائح، فإن الأمن هو حاجتنا الأولى قبل التفاصيل الأخرى. إنهم يضغطون على خياراتنا وأولوياتنا. وكما يحرفون الوقائع، فإنهم يحاولون الآن تحريف الاستجابات لها.
أما بالنسبة إلينا، فيجب أن نتقبل مشاعرنا أولاً ونفهمها ونعبر عنها، ولا نتردد في مشاركتها مع البيئة المحيطة، حيث نتشارك كجماعة دعم الإحساس نفسه.
4- علينا أن نكون واقعيين، وأن نزيل وَهم التحوّل الكُلّي من أذهاننا. نحن نتغيّر بالتراكم. الجزئيّات ترسم الكلّيّات. الإنسان ينتصر في معاركه التغيريّة ضد نفسه بالنقاط لا بالضربة القاضية. لا شيء يجعلك إنساناً آخر في الحال. وكما رحلة العلم والتعلّم، أيضاً رحلة المقاومة مشابهة< قطرة قطرة، سواء كانت دمعة أم دماً أم عرقاً... قطرة قطرة سيُفتت جدار الاحتلال.
5- النصر حليف القوة. العالم قد يتعاطف مع الضعفاء، لكن في صراع الأمم وتحديد المصائر يمضي العالم باتجاه احترام الأقوياء.. وليس هناك أقوى من شعب يحلم ويمضي ولا يتراجع. نعم، يمكن أن نبكي وأن نُخبّئ دموعنا أو نرفع صرخاتنا. يمكن أن نختار شكل الحزن الذي نريده، لكن واجبنا أن نعلن تفاؤلنا، فالقوة هي ما يجري في الميدان، ولنترك دور الضحية المسلوبة الإرادة، لأن الواقع الفعلي أن أبناء الأرض وهم تحت القصف أقوى حتى منا.. أحزاننا كبيرة وهائلة، سندفنها لاحقاً، ولا يجب أن نسمح للعويل بأن ينسينا هدفنا النبيل.. إنها حرب الأمل.