صراع الهوّيات القاتل.. "إسرائيل" من الداخل
اكتشف قادة الصهيونية أن حل المسألة اليهودية لن ينتهي بإقامة الدولة، لكنهم لم يتمكنوا من خلق هوية موحدة ومتجانسة، ما أدّى إلى صراعات عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي.
الكيان الإسرائيلي عبارة عن مشروع استعماري غربي إحلالي، فهو رهينة التطورات والتغيرات الخارجية والداخلية، وهذه المقالة تسلّط الضوء على الأزمات الداخلية التي تعاني منها دولة "إسرائيل"، والتي من شأنها إما أن تحدّ من تطورها كدولة أو ستؤدّي إلى تفسّخها من الداخل.
ومن أهم الأزمات الداخلية التي تعصف بـ"إسرائيل" أزمة الهوية، فـ"إسرائيل" تعرّف نفسها بأنها دولة يهودية وديمقراطية في الوقت نفسه. إلا أن هناك تناقضاً في مركّبات الهوية الإسرائيلية، وهي اليهودية، والصهيونية، والقومية، والديمقراطية. وينبع هذا التناقض من المنطلقات والخلفيات التي ينطلق منها كل مركّب؛ فمحاولة المزاوجة بين اليهودية وأيّ من المفاهيم السابقة الذكر تنطوي على خلل بنيوي وأزمات كامنة وأخرى ظاهرة على صعيد الفكر والممارسة.
فاليهودية ديانة تخصّ اليهود، وتؤمن بمعتقدات وتتشبّه برموز دينية تختلف تماماً عن الصهيونية التي أحدث مفهومها أزمة عميقة لليهودية. فقد استولت على رموزها وحوّلت نفسها إلى حركة خلاصية يهودية تسعى إلى إقامة وطن قومي لليهود، داعية إلى إحداث انقلاب جذري في حياة اليهود عن طريق تخليصهم من حالة الاضطهاد الدائمة الممارسة بحقهم. ومنذ ظهور الصهيونية، نشب صراع ما بين اليهودية والصهيونية، وما زالت اليهودية ومختلف تياراتها الدينية ترفض الصهيونية وتعتبرها حركة علمانية ملحدة تمثّل خطراً على اليهود واليهودية، لاعتقادهم أن الدولة اليهودية سيقيمها الماشيح المنتظر، ولن تقوم على أيدٍ بشرية.
أما بخصوص التزاوج الذي يجمع بين اليهودية والقومية، فينطوي هو الآخر على تناقضات صارخة. فقد حاولت الصهيونية إنتاج تطابق بين الدين والقومية، والادعاء أن لليهود أصلاً واحداً، وأن يهود العالم يشكلون قومية واحدة، ومن أجل خلق القومية اليهودية ابتدعت "إسرائيل" ما عُرف ببوتقة الصهر، من أجل محاولة صهر المجموعات اليهودية المهاجرة التي تفتقد التجانس من خلال مؤسّسات عامة كالهستدروت والكيبوتس والجيش، إلا أن هذا الخلط العشوائي لهذه الجماعات نجم عنه مزيد من التنافر والصراع والتوترات، وخاصة بين اليهود الشرقيين والإشكيناز الغربيين، ومع توالي الهجرات فشلت بوتقة الصهر في بناء هوية قومية واحدة لليهود.
أما تزاوج مفهومَي اليهودية والديمقراطية فقد انطوى هو الآخر على تناقض واضح، ذلك أن اليهودية وما تتضمنه من معتقدات وتصورات عنصرية تتنافى تماماً مع الديمقراطية التي تقوم على أساس المواطنة والحريات وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر وغيرها من المفاهيم. فاليهودية تصف شعب (إسرائيل) بشعب الله المختار، وعليه فإن أي شعب آخر يعتبر من وجهة نظرهم شعبا ًممثلاً بالدونية، وفي هذه الرؤية نزعات عنصرية واحتقار وكراهية للشعوب والجماعات غير اليهودية؛ فاليهودية ديانة انطوائية تضع الحواجز بينها وبين مختلف الأديان والشعوب، وهذا يتناقض مع أهم أسس الديمقراطية الداعية إلى الانفتاح والتسامح واحترام الرأي الآخر وتقبّله. فالديمقراطية لا تقبل بما تنطوي عليه اليهودية من معتقدات وممارسات تتناقض تماماً مع مبادئها وأسسها.
وعليه، اكتشف قادة الصهيونية والكيان الإسرائيلي أن حل المسألة اليهودية لن ينتهي بإقامة الدولة، فلم يتمكن القادة من خلق هوية موحدة ومتجانسة من خلال بوتقة الصهر، ما أدى إلى انقسامات وصراعات عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، بدأت تبرز بعد إقامة "الدولة"، ولعل أهمها هو الصراع بين التيار الديني والتيار العلماني؛ فقد هدفت الصهيونية إلى إقامة دولة قومية علمانية، وهو ما أدّى إلى صراع حاد مع الجماعات الدينية المتزمتة التي رفضت الصهيونية وخطابها من حيث المبدأ، لكن مع الوقت اضطر التيار الديني إلى الانخراط في الحياة السياسية، في محاولة للتأثير على قرارات الدولة وثقافة المجتمع، وقد ولّد تنامي التيار الديني قلقاً في أوساط العلمانية المسيطرة على الدولة، وتوترات دائمة وصراعات متواصلة منذ إقامة الدولة حتى الوقت الراهن.
فالأحزاب الدينية تسعى إلى الانخراط أكثر في الحياة السياسية من أجل إعطاء مضمون ديني للدولة، والحفاظ على الوصايا اليهودية الدينية، ولاقتطاع ما يمكنها من حصص وموازنات من الحكومة في سبيل خدمة أتباعها وبرامجها. ويرى التيار العلماني أن التيار الديني يمثّل عبئاً على الدولة، فهم يتلقّون موازنات كبيرة، ولا يُسهمون في العملية الإنتاجية، ولا يخدمون في الجيش، وفي المقابل يتّهم التيار الديني التيار العلماني بأنهم بعيدون عن الدين اليهودي، وبالتالي يمثّلون خطراً على اليهودية.
ثم يأتي بعد ذلك الانقسام الإثني بين المستوطنين والمهاجرين. وتعود أسباب هذه الانقسامات إلى تعدّد الأصول الإثنية والثقافية للمهاجرين، إضافة إلى توافدهم في فترات مختلفة، وهو ما ولّد مجموعات غير متجانسة، وأبرز هذه الصراعات بين اليهود الإشكناز الغربيين واليهود الشرقيين، في ظل الهيمنة الإشكنازية على الدولة، وتهميش بقية الفئات والجماعات الإثنية. وعلى سبيل المثال، فقد وصلت نسبة الفقر في "إسرائيل" عام 2016 إلى 22%، حيث يتركز الفقر لدى اليهود الشرقيين والفلسطينيين في الداخل المحتل.
وهذا التهميش أدى إلى ظهور حركات احتجاج في صفوف اليهود الشرقيين، ضد هيمنة الإشكناز على المفاصل الرئيسية في الدولة، والتي أثمرت تبلور أحزاب وحركات سياسية، أبرزها حركة شاس. ولم تقتصر هذه التصدّعات الإثنية على اليهود الشرقيين والغربيين، بل تعدّتها لتشمل الجماعات اليهودية كافة: الروسية والإثيوبية والآسيوية، وأميركا اللاتينية، وغيرها من الإثنيات، إلى جانب الصراع اليهودي العربي الفلسطيني.
إلا أن قادة "إسرائيل" توصلوا إلى ما يوحّد هذه الجماعات المتنافرة والمنقسمة، ألا وهو الخطر الذي يتهدّدها، عن طريق ترسيخ ثقافة الخوف والخطر الذي يمثّله العرب على وجود اليهود.
ثم يأتي بعد ذلك سؤال: "من هو اليهودي؟"، القضية التي أثارت خلافات بين مؤسسات الدولة والمؤسسة الأرثوذكسية، وترتّب عليها عدم الاعتراف من قبل المؤسّسة الدينية اليهودية بآلاف المهاجرين، في ظل تشجيع الصهيونية العلمانية على الهجرة إلى "إسرائيل".
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو قد أصرّ على الاعتراف بـ"إسرائيل" كدولة للشعب اليهودي من جانب الطرف الفلسطيني والعرب والعالم أجمع، ما أدى إلى بروز خلاف حول مفهومي الدولة اليهودية أو دولة اليهود، وما يحمله كل مفهوم من تفسيرات. فالتيار الديني يفضّل مصطلح الدولة اليهودية حتى يكون للدين اليهودي دور مؤثر في الحياة العامة، أما مصطلح دولة اليهود فهو أقرب إلى القومية.
ومسألة يهودية الدولة قد جرى تأكيدها من خلال عدد من القوانين الأساسية، وكان آخرها قانون القومية الذي أُقِرّ عام 2018، وتكمن خطورة هذا القانون في أنه يكرّس الامتيازات الحصرية في الأرض والثروات لليهود وحدهم، ويحوّل الفلسطينيين، سواء في داخل أراضي الـ48 أم في الضفة الغربية، إلى مجموعات بشرية لا حقوق لها، وهو ما يهدّد وجودهم على الأرض.
لقد كان الحلم الصهيوني أن تقام دولة يهودية على كل فلسطين بعد تشريد سكانها الأصليين منها. فبعدما هجّرت العصابات الصهيونية قرابة مليون ونصف مليون فلسطيني، ولم يبق منهم سوى ما يقارب 70 ألفاً موزعين على عدد كبير من القرى والمدن، أصبحوا بعد أكثر من 68 عاماً أكثر من مليون ونصف مليون نسمة. فمعدّلات النمو في نسبة المواليد الخام عند الفلسطينيين أعلى بكثير من معدلات مواليد اليهود، ما يسبّب قلقاً عند القادة الإسرائيليين بخصوص تزايد عدد سكان العرب، لذلك ترفض "إسرائيل" عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين سيُغيّرون طابع الدولة الصهيوني، في ظل اقتراب أعداد اليهود من أعداد الفلسطينيين في فلسطين.
وقد تحدّث عدد من القادة الإسرائيليين التاريخيين عن زوال "إسرائيل"، أمثال المؤرّخ الصهيوني المتطرّف بيني موريس، والسياسي أبراهام بورغ، والكاتب إبراهام تيروش وغيرهم، وهذا الزوال مقترن بإصرار قادة الصهيونية على إنشاء دولة اليهود النقية، التي لا يمكن وجودها. ففي ظل المعادلات القائمة، سيصبح اليهود أقلية في هذه "الدولة".
ويقودنا هذا إلى نقطة ثانية بالغة الأهمية، ألا وهي الهجرة المعاكسة. فقد اعتمدت الحركة الصهيونية على هجرة اليهود من دول العالم كافة إلى فلسطين، من أجل إنشاء الدولة والسيطرة على الأرض، لكن بعد إجبار "إسرائيل" على الانسحاب من لبنان وقطاع غزة تحت ضربات المقاومة، بدأ الصهاينة يشعرون بالخطر والإحساس بعدم الأمان في "إسرائيل". وفي حال استمرت الهجرة المعاكسة، وبقيت معدلات النمو للمواليد الخام عند الفلسطينيين أعلى منها عند اليهود، فستفوق أعداد الفلسطينيين أعداد اليهود بكثير خلال العقود المقبلة.
تبقى نقطة أخيرة تتعلق بالتغيّر في النظرة إلى القوة العسكرية الإسرائيلية المدعومة من الغرب، التي عُرفت سابقاً بـ"الجيش الذي لا يهزم"، فقد بدأت بالتغير ابتداءً من حرب عام 1973، كما أن هناك قلقاً وجودياً ناتجاً عن حركات المقاومة الفلسطينية. فالفلسطينيون يمثّلون كابوساً حقيقياً للإسرائيليين في ظل استمرار الهبّات والعمليات الفدائية والعمليات الفردية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى التطور النوعي في القدرة القتالية للمقاومة الفلسطينية في القطاع، التي استطاعت صواريخها ضرب جميع المدن والمواقع والمؤسسات الحيوية والمطارات الإسرائيلية، ما أحدث حالة من الفزع للمستوطنين الذين كان لهم دور في وقف الحرب، للخلاص من صواريخ المقاومة في عام 2021.
وعليه، لن تستطيع "إسرائيل" القضاء على حركات المقاومة التي تعمل بجد لتطوير مهاراتها وأساليبها القتالية. فقد أُجبِرت "إسرائيل" بعد عام 1967 على الانسحاب من ثلاث مناطق تقع في صلب مشروعها الاستيطاني التوسّعي، تحت ضربات المقاومة، وفي حال أخلت الضفة الغربية أو أجزاء منها أو توصلت إلى تسوية حول موضوع القدس، تكون قد زعزعت أهم الأسس التي تستند إليها اليهودية والصهيونية على حدّ سواء، وذلك لأن هذه المناطق تعدّ هي الوطن اليهودي التاريخي المزعوم؛ فالقدس الشرقية هي في قلب المشروع الصهيوني وجوهره، ولهذا تكون قد سجّلت لحظة فارقة في تاريخ الصراع، وهذ يدلّل على الانكماش الجغرافي للمشروع الصهيوني التوسعي، وانتقال "إسرائيل" من مرحلة القوة إلى الضعف وانطوائها خلف جدرانها الإسمنتية.
إن هذه الصراعات والانقسامات والتصدعات المتنوعة من شأنها أن تتنامى وتعكس نفسها على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في "إسرائيل"، ومن الممكن أن تؤدي إلى أزمات قد تصل إلى حدّ التعبير عنها بوسائل عنيفة.