رجال دين في زمن فلسطين
ينتظر الفلسطيني اليوم "الربيع العربي" الحقيقي مقابل التصحّر الإنساني والسياسي والمبدئي، والجفاف الأخلاقي، والتخاذل الرسمي العربي، والهوان والقمع والتقوقع الشعبي.
في السابع عشر من آب/ أغسطس الحالي، صدر بيان من كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، أشبه بصرخة عتب وغضب إلى علماء الأمة الإسلامية، جاء في الرسالة: "يا ورثة الأنبياء والمرسلين، أما بلغكم ما يتعرض له إخوانكم المسلمون في غزة منذ أكثر من 300 يوم لأطول وأبشع عدوان في العصر الحديث"؟
وقالت كتائب القسام: "إننا نستشعر أننا نعيش أيام الخذلان التي أخبر عنها النبي محمد (ص)، إذ يكون الخذلان من القريب الذي تُرجى نصرته، فليس الخذلان من الأنظمة والحكام، ولا من عموم المسلمين، إنما هو من العلماء والدعاة أمثالكم، فإن لم تكونوا أنتم فمن؟ وإن لم يكن اليوم فمتى؟
الحركة الإسلامية الأصل والمنشأ والمسار، الحركة المقربة من الدعاة والأئمة ورجال الدين تصرخ في وجه الخذلان وصمت الحملان.
أن تمس كلمات الرسالة من توجهت إليهم فهذا أكيد، لم تكمل الرسالة ساعات من نشرها حتى تم سحب التداول بها، لكن كلماتها قيلت وخرجت وظلت حاضرة في الهواء الثقيل بين الطرفين، فهي كلمات الغرف المغلقة والعلاقة المعلقة.
قبل ثمانية أشهر، وبعد شهرين من بدء الحرب على غزة، أكد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ علي محيي الدين القره داغي أن الاتحاد قام بدور كبير ومهم في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وتحريك الشارع الإسلامي وتنفيذ إضراب عام شاركت فيه شعوب عدد من الدول العربية والإسلامية، لافتاً إلى مشاريع أخرى ستُطرح على دول إسلامية كبرى مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا.
وأضاف أنه تم الاتفاق على تسيير 100 سفينة دعماً للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، داعياً الدول المطلة على البحر المتوسط إلى حمايتها حتى تصل إلى غزة.
مرت الشهور، فلا تحركت السفن ولا تحركت الجماهير، لا غضباً ولا تظاهراً، اللهم إلا نثرات هنا وهناك، باستثناء اليمن وحراكه الجماهيري الدوري حتى اليوم.
حتى في السياسة، لم يرقَ موقف عربي أو إسلامي إلى موقف دولة جنوب أفريقيا بشأن الدعوى التي رفعتها ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية، لا بل إن كثيراً من الدول الحاملة لهاتين الصفتين العربية أو الإسلامية لم تدعم خطوة جنوب أفريقيا، أو لم تقم بما قامت به دول في أميركا اللاتينية بقطع علاقاتها مع "إسرائيل" كـ كولومبيا وبوليفيا.
وحتى في المواقف السياسية المضبوطة، لم نشهد مبادرة إيجابية تجاه الفلسطينيين، فما الذي يمنع مثلاً من استضافة الرئيس الفلسطيني-حتى لا نقول أي شخصية مقاومة في حماس- في برلمان عربي ليحظى، بأضعف الإيمان، بتصفيق يشبه تصفيق الكونغرس الأميركي لنتنياهو!
كل ما سبق، يتحدث عن درجة الخذلان في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وهي أقل وطأة مما نشهده الآن، فنحن في مرحلة التواطؤ.
إذ من الصعب ألا نقارن حماسة رجال دين في التعاطي مع ملفات أخرى، فهناك نخب وشرائح من الدعاة وعلماء الدين كانوا في الصفوف المتقدمة، خلال "الربيع العربي" عبر شحذ الغرائز وتغذية العنف والانقسامات، واستحضار إعلام يقوم على نخر الجسد العربي، والتلفيق والتزييف، وتضخيم كل ماهو تافه، والتقليل من شأن كل ماهو مهم وفاعل.
في دول هي، للأسف، عربية وأخرى إقليمية خطفت المناهج التعليمية والجامعات والمدارس والمساجد والشاشات والمواقع الإلكترونية إلى قبضة مروجي التكفير وإلغاء الآخر، لهذا الإرهاب التكفيري والترهيب الفكري أبٌ روحي هو "إسرائيل".
في كتابه عن استراتيجية "إسرائيل" العظمى يشير المفكر الصهيوني يحزقيل دورور إلى ضرورة إثارة النزاعات في الدول العربية، وتفتيت المجتمعات من الداخل، لم تتأخر "إسرائيل" في تنفيذ هذه الأجندة.
وتغذى سرطان تعزيز الأحقاد عبر مشاهد تقصدت زرع التفرقة والغضب، وانتشرت موجات القتل والتهديد والوعيد من صفوف الجماعات المسلحة إلى منابر محطات الفتنة ورجالها.
قد يصح القول إن الكثير من مدّعي الدين دوراً يتجاوز الخذلان إلى التواطؤ، وخصوصاً من رؤساء المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية، فبعد إثارة الأحقاد داخل البلد الواحد، والشعب الواحد، وحتى البيت الواحد، هؤلاء اليوم، خذلوا فلسطين وغزة وأهلها وأطفالها وشهداءها وجرحاها، خذلوا المقاومة وكرامة الأمة.
في حضرة الإسلام والسياسة، فإن الأصل يكون بالقرب من الناس ومعرفة أحوالهم وأفكارهم وبناء علاقة بين العالم والحاكم، بعيداً من منطق التوظيف.
وهنا، لا بد من تشغيل نباهة الفرز وتفعيل فطنة الفطرة، فطرة لا يتعلمها المرء من الكتب، ولا تُقرأ في الإعلام، فطرة لا بد معها من التمييز بين رجال الدين الحقيقيين وأولئك المتاجرين، لا بد من التمييز بين المثقفين الملتزمين وكتّاب السلاطين، بين المناضلين وأولئك المزايدين..
مسألة الفرز هذه مهمة، إذ إن الفجور بلغ أن تنتشر مفاهيم تخلط بين المقاتلين والقاتلين، وتذهب للقول إن القنوات المضللة هي تلك التي (تنفخ في المقاومة) لأنها تعطي نتنياهو مبرراً لاستمرار الحرب!
الخَدر انتقل من الصعيد الرسمي إلى الشعبي فشمل الشعوب وليس فقط علماء الدين، وبينما يقول علم النفس والاجتماع إن التعبير عن الغضب حاجة ليست فقط لنصرة المظلوم ولكنه أيضاً ضرورة وانتصار لإنسانيتنا إن فعلناها، فإننا إذا نفعلها لأجل أنفسنا أيضاً وذواتنا وصورتنا وكينونتنا قبل الآخر.
ينتظر الفلسطيني اليوم "الربيع العربي" الحقيقي مقابل التصحّر الإنساني والسياسي والمبدئي، والجفاف الأخلاقي، والتخاذل الرسمي العربي، والهوان والقمع والتقوقع الشعبي، والتراخي العربي والغياب الجماهيري، سياسياً وقومياً ودينياً وثقافياً وإنسانياً تجاه القضية الفلسطينية.
فلسطين، كل فلسطين، ليست قطعة فلكلورية، لتأكيد أيديولوجيا معينة، فنصرة فلسطين والفلسطينيين المظلومين والمستضعفين واجب أخلاقي وشرعي، وقبل كل شيء واجب إنساني.