الكيان يحظر الميادين: لسنا آسفين، لقد خلخلنا أمن "إسرائيل"
بعد مرور 39 يوماً على معركة طوفان الأقصى، ها نحن مستمرون. يخيّم الحزن على غرف أخبارنا وشاشاتنا، مع ارتفاع أعداد الشهداء والمجازر التي تصلنا من قلب غزة، لكن هذا الحزن مجبول بالانتقام والعزم على خوض حرب السرديات والفوز فيها.
فجر السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بدأت الأخبار العاجلة تتوالى من فلسطين المحتلة. شيء ما غير اعتيادي يحدث هناك. لم نكن نعرف طبيعة الحدث المقبلين عليه. ظنّ كثيرون منّا أن عملية طعن تحدث، كما جرت العادة. المجموعات الإخبارية الخاصة بمكاتبنا بدأت تنشط، الأخبار تتوالى. عملية كبيرة تجري إذاً، قمنا بالجري خلفها وتتبُّع أثرها، خطوةً خطوة. كانت "طوفان الأقصى".
ما إن بدأ الخبر اكتساب العناصر التي تمكّنه من الظهور والنشر، حتى بدأنا التوافد على المكاتب، ومن كانوا في منازلهم تسمّروا أمام شاشات التلفزة لمشاهدة الميادين أيضاً. في الساعات الأولى من عملية طوفان الأقصى، كنّا، كصحافيين، مصدومين مما يحدث. هل أتى اليوم الذي ننتظره؟ ربما بدأت الأيام التي تمهّد له.
بمجرد أن اتضح المشهد، وكانت بشائر عملية طوفان الأقصى وصلت، بدأ العمل. ساعات طويلة في التخطيط والمواكبة والرصد، لنكون على قدر الحدث. لم يعد لجداول الدوام أهمية، فنحن حاضرون كل الوقت، والعمل مستمر، وقلوبنا مع مراسلينا في غزة، وقلوبنا عليهم. مراسلونا في فلسطين يعملون ليل نهار، ويتلقون التهديدات أيضاً، لكنهم مستمرون.
في الجنوب اللبناني، تسابق مراسلونا إلى تغطية الأحداث، فلقد لاحت في الأفق معركة جديدة منذ اليوم الثاني لطوفان الأقصى. 39 يوماً وخلايا نحل تعمل في مكاتب الميادين طوال أيام الأسبوع، تعمل بدافع الحب، بدافع الانتماء. قد لا أجد المصطلح الملائم هنا، لكن، منذ بداية طوفان الأقصى، كأن بيوتنا هي التي تُقصف، ومستشفياتنا هي التي تهدَّد، وكأن المجازر تحدث في بيتنا.
في الميادين، نحن قليلون كثيرون. بيننا صحافيون وتقنيون ومذيعون ومحررون ومدققون لغويون وكتّاب من كل الوطن العربي، ومن كل الجنسيات والمذاهب والطوائف. وبيننا الفلسطيني، الذي يعمل معنا، وقلبه في فلسطين.
خلال هذه التغطية، خبرنا استشهاد عائلة زميلنا عبد الرحمن الحسني كاملة. شاهدنا الألم عن قرب، بكينا مع عبد، وبكينا من أجل قلبه المفطور. كنا على تماس مع دقات قلبه: ماذا سيفعل؟ كيف سيكمل الطريق والموت خطف كل من عاش من أجلهم؟ كنا نسمع عن المجازر منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى، لكن في اليوم الذي ارتقت فيه عائلة عبد بأكملها، كان الإحساس بالألم مغايراً، كأن الموت بات أقرب إلينا.
نعيش في الميادين معركة من نوع آخر، منذ بداية عملية طوفان الأقصى. ومستمرون فيها، ننتمي إلى فلسطين، نحن وسياستنا وعدساتنا وأقلامنا وصوتنا أيضاً.
حرب السرديات
صادق "الكابينت" الإسرائيلي الاثنين على إجراءات ضد نشاط شبكة الميادين الإعلامية في فلسطين المحتلّة. وبحسب بيان مشترك لوزير أمن الاحتلال، يوآف غالانت، ووزير الاتصالات، شلومو كرعي، فإنّ هذا الاقتراح المقدَّم من وزير إعلام الاحتلال يأتي بسبب أنّ الميادين تضرّ بـ"أمن إسرائيل".
البيان قال إن "لوزير الاتصالات في هذه الحالة المذكورة (الإخلال بـ"أمن إسرائيل") أن يأمر، عبر مرسوم، بإغلاق المكاتب ومصادرة معدات البث، ومنع استخدام البنى التحتية للاتصالات المتعددة لهيئة البث"، وذلك وفقاً لـ "أنظمة الطوارئ" لدى الكيان وحكومته.
شكّل هذا البيان توثيقاً دامغاً وخريطة ناصعة الوضوح بأننا نعم، نمشي في الطريق الصحيح. الإخلال بأمن الاحتلال تهمة تلائمنا ونسعى لارتدائها كل يوم. نحن لا نرى أن هناك "دولة" أخرى في فلسطين. وفي سياستنا التحريرية، يُدعى هذا الشيء المسمّى "إسرائيل" كياناً محتلاً. والإضرار بـ "أمن" هذا الاحتلال، ولا سيّما لجهة محاربة الأفكار التي يبثّها ويدّعيها، هدفٌ ثابت ومشروع لنا.
لكن، لماذا تخشانا "إسرائيل"؟ لماذا تخشانا بالمعنى الحرفي؟ نحن لا نستخدم الكنايات هنا: لماذا تخشى الأثر الذي نحدثه؟
كيان يدعمه العالم الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، له أبواق تنادي باسمه على امتداد العالم، ينشر الدعاية المضللة، بدراسة وبتجنيد مئات آلاف المتطوعين لدعم السردية الإسرائيلية، لماذا يخشى الميادين؟
في الأسبوع الأول على الحرب على غزة، كشفت وسائل إعلام غربية أن طواقم وزارة الخارجية الإسرائيلية أجرت جلسات إحاطة لـ 250 مراسلاً أجنبياً، وأكثر من 640 مقابلة مع وسائل الإعلام الدولية، في مختلف اللغات، لتشويه الرواية الفلسطينية ومحاربتها. وبحسب صحيفة "غلوبس" الإسرائيلية، تم في الاسبوع الأول أيضاً، نشر نحو ألف منشور وتغريدة، في اللغات الإنكليزية والإسبانية والعربية والفارسية والروسية، والتي حصلت على أكثر من 320 مليون مشاهدة، من خلال نشاط القسم الرقمي في وزارة الخارجية الإسرائيلية. وصدر أكثر من 80 بياناً رسمياً لإدانة حماس ودعم "إسرائيل"، من مختلف البلدان.
هذه الأرقام مثال بسيط على الأموال التي دفعها الكيان الإٍسرائيلي من أجل تشويه السردية الحقيقية، ودسّ سردية أخرى ليتبناها العالم: "نحن نحتل بلادهم ونقتلهم، لكن، انظر أيها العالم، يريدون أن يدافعوا عن أنفسهم"!
تعيش "إسرائيل" على سردية وهمية، تحاول وسائل إعلام المقاومة محاربتها ودحضها طوال الوقت. في المقابل، ستقمع "إسرائيل" جميع وسائل الإعلام التي تحارب أفكارها وسرديتها، وهو نهج لطالما مارسته، وطورّته، ووصلت به إلى الاستهداف المباشر. ففي حرب تموز/يوليو 2006 كان أول أهداف "إسرائيل"، في اليوم الثاني للحرب، استهداف قناة "المنار". كان إٍسكات صوت المقاومة من أوّل أهدافها.
من المعروف أنه يتم إيقاف القنوات الإخبارية خلال الحروب خوفاً من تأثيرها، وأثرها. فالحروب تقوم على الفكرة كأساس، كما تقوم الدعاية على محاولة الإقناع، بينما لو كان في الإمكان إقناع الخصم، لما كان هناك حاجة إلى الحرب.
كنّا نعرف أننا مستهدَفون وسنُستهدف في أي فرصة تريد "إٍسرائيل" أن تنتقم فيها للثقوب التي نُحْدثها في سرديتها، ولا سيّما أننا منحازون بوضوح. وهذا معلن، وسنقوله يومياً، وكلما دعت الحاجة.
بعد مرور 39 يوماً على معركة طوفان الأقصى، ها نحن مستمرون. يخيّم الحزن على غرف أخبارنا وشاشاتنا، مع ارتفاع أعداد الشهداء والمجازر التي تصلنا من قلب غزة، لكن هذا الحزن مجبول بالانتقام والعزم على خوض حرب السرديات والفوز فيها.
سنحمل سرديتنا ونجوب فيها العالم، وسنحارب سردية الاحتلال بأي إمكانات نملكها، على رغم محاولات تقييد الكلمة المقاومة وحجبها. مستمرون لأن الميادين، تماماً كما وصفها رئيس مجلس إدارتها غسان بن جدو، " ليست بناءً، ولا جُدراناً، ولا مكاتبَ، ولا كاميرات. إنّها في العُمق فكرةٌ، رؤيةٌ، ثقافةٌ، خيارٌ، مشروعٌ إعلاميٌ عربيّ أمميّ إنسانيّ متكاملٌ، اسمُه الميادين".