الدور الفاعل لـ"اللاجئين" الشوام في النهضة المصرية في القرن الـ19
المزيَّة التي حظيت بها مصر منذ دهور، هي عملية الانصهار والدمج اللذين اعتصرا كل تلك الأعراق البشرية ومزجاها فيما يسمى: الشعب المصري.
شهدت وسائل التواصل الاجتماعي في مصر مؤخراً هجمة شرسة وممنهجة ضد من سموهم اللاجئين السوريين، وتوسعت الحملة لتشمل اللاجئين العرب من سودانيين وعراقيين وليبيين ويمنيين.
أشعل فتيل هذه الهجمة فئة من الذباب الإلكتروني التابع للتيار الانعزالي في مصر بدعم من عناصر من الرأسمالية المتوحشة والمتغلغلة في مفاصل الدولة المصرية منذ إطلاق الرئيس الراحل أنور السادات ما سماه الانفتاح الاقتصادي، والذي وصفه الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين في عبارة كاشفة "الانفتاح سداح مداح".
وانساق في تيار الحملة المغرضة بعض من المتضررين من النجاح الكبير الذي حققته المشاريع التي أقامها السوريون، وخصوصاً محال الأكل والملابس والعطور وغيرها من المشاريع التي برع فيها السوريون بصورة كبيرة، وهو ما رآه بعض ضيقي الأفق تهديداً لنظرائهم من المصريين، بدلاً من أن يكون محفزاً على تطوير أدواتهم حتى يعودوا إلى المنافسة بقوة، على غرار ما فعل أجدادهم في أوائل القرن التاسع عشر، عندما جاءت الهجرات الشامية، التي وفدت من سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، إلى مصر، وساهمت، بصورة كبيرة، في تحديث المجتمع وعصرنته والانفتاح على الغرب الأوروبي وإنشاء دُور الصحف وتحديث الطباعة والنشر والنهضة، والتي ساهموا في إحداثها في مجالات الصحافة والترجمة والمسرح والسينما والموسيقى، وكذلك العمل في المهن الحرة والمصارف، وكانوا جزءاً من الشرائح البرجوازية والمنفتحة على الثقافات العالمية.
ومن أبرز هؤلاء المثقفين الشوام، الذين أَثْروا الحياة المصرية، ثقافياً وفنياً، بشارة وسليم تقلا، مؤسّسا جريدة "الأهرام"، ورجل الأعمال والمصرفي حبيب السكاكيني، ورجال الأعمال من آل صابات، وأدباء وشعراء، أمثال جورجي زيدان وخليل مطران وإيليا أبو ماضي وفرح أنطون، والمسرحي جورج أبيض والمنتجة دولت أبيض والمخرج يوسف شاهين، والفنانون عمر الشريف وسعاد حسني، وغيرهم المئات.
أيضاً شارك الشوام، عبر نشاط واسع، في تنمية القطاع الخاص، ونجحوا في زراعة القطن وأشجار التوت، كما تألقوا في المهن الحرة، إذ شغلوا مناصب محاسبين وقضاة ومحامين وأطباء ومهندسين ومقاولين ومترجمين ومستشارين سياسيين، استقروا في الإسكندرية ودمياط وطنطا والقاهرة.
تجاوزت الجالية الشامية 100 ألف مهاجر في أوائل القرن العشرين، معظمهم موظفون حكوميون وحلاقون وإسكافيون وسائقون ومهندسون وأطباء وتجار ورسامون، فضلاً عن الكتاب والصحافيين والأدباء والمثقفين.
وقُدرت مجمل ثروتهم بمليار ونصف مليار فرنك؛ أي 10% من الناتج المحلي المصري. وكان البعض من كبار الرأسماليين استثمر أمواله في مجال الصناعات البسيطة (كالزيت والصابون والتبغ والحلويات...)، في حين أسس آخرون شركات أكبر في مجال التجارة أو إنتاج الملح أو الصوديوم أو المنسوجات أو العطور أو الخشب أو الحرير، وساهم ذلك في زيادة معدل نمو الاقتصاد المصري.
مارس الشوام كل المهن تقريباً. فكان منهم أطباء ومهندسون ومحامون ومقاولون وتجار وخبراء في البورصة والبنوك، وخبراء في الزراعة واستصلاح الأراضي.
وأنشأوا مصانع وأسسوا شركات، وأصبح البعض منهم من كبار مجالهم. على سبيل المثال الأخَوان سمعان وجور كرم (ملك الخشب)، وفيليب كفوري (ملك النقليات)، صاحب أسطول الباصات العاملة على الخط الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية. ومنهم حبيب سكاكيني، صاحب القصر الشهير، الذي أُطلق اسمه على ميدان وشارع في القاهرة، وهو من مواليد دمشق عام 1841.
وحبيب لطف الله، الذي قدم إلى مصر من طرابلس (لبنان)، وأصبح من كبار الأغنياء بفضل عمله في التجارة بين مصر والسودان. وهناك الأخَوان سليم وسمعان صيدناوي، وهما مسيحيان سوريان من طائفة الروم الكاثوليك.
كان لأهل الشام، الذين هاجروا إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر، الفضل والريادة في نقل مصر التي كانت مهيَّأة تماماً لاستقبالهم إلى مكانة علمية وثقافية مرموقة ومتميزة، وأدخلوا فيها أنظمة العمل الخاص أو ما يسمى حالياً "القطاع الخاص"، وطوروا النظام الاقتصادي وأنشأوا المصارف، وعملوا في مجال التوريد للسلع والمنتوجات، وخصوصاً الأقمشة الحريرية والقطنية، التي كانوا يجلبونها من دمشق وحلب.
كذلك قاموا بشراء العقارات والتزام الأراضي الزراعية في مختلف أنحاء مصر، وامتد نشاط بعضهم ليشمل استيراد سلع من اليمن والهند إلى مصر، واعتمد محمد علي على أعداد منهم للإشراف على زراعة بعض الأصناف الجديدة التي جلبوها معهم.
وساهم الشوام في إثراء الحياة في مصر، ثقافياً وفكرياً، وكان أغلبهم من ذوي التعليم العالي، وساعدتهم ثقافتهم وأفكارهم على تقبل المفاهيم الغربية والعمل وفقاً لها، وساهم العاملون منهم في ميدان الصحافة في نشر الجديد من الأفكار التي كانت رموج في أوروبا.
ولفتني أن من يقود الحملة أشخاص يلتحفون بشعار كيميت والقومية المصرية، ويكيلون الاتهامات لحركة حماس من قبيل أنها ورطت أهالي غزة في حرب شرسة أدت إلى مقتل وجرح عشرات الآلاف وتشريد مئات الآلاف، وهو ما يجعل البعض يتوقع أن تكون متداخلة مع هذه الاتهامات أصابع صهيونية، وخصوصاً أن الحملة جاءت عقب نجاح حملة مقاطعة الشركات والمطاعم الداعمة للكيان الصهيوني.
لكن التطور الأخطر - من وجهة نظري - يتمثل بدخول الحكومة المصرية على خط الحملة، بحيث أعلنت الحكومة المصرية طلبها البدء بشأن تدقيق أعداد اللاجئين وتكلفة ما تتحمله الدولة من خدمات لرعايتهم. وخلال الاجتماع، عرض الوزراء ما قدمته ولا تزال تقدمه الدولة إلى الأشقاء في قطاع غزة من دعم، عبر توفير السلع والمساعدات وعلاج المصابين وغير ذلك من صور الدعم (لاحظ الربط). وهذا يكشف أن بعض الذباب الإلكتروني، الذي شارك بقوة في الحملة، يعمل في خدمة الجناح اليميني في السلطة السياسية في مصر، والمنحاز إلى الرأسمالية المتوحشة والمعادي للأفكار العروبية.
هذا الأمر يذكرني بحملة انعزالية شبيهة قادها إعلام السادات قبيل الإقدام على زيارة القدس، والتي أعقبها توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
من نافلة القول التذكير بأن مصر تتشكل من خليط من الأجناس. ويعود ذلك، في أحد أسبابه، إلى موقعها الجغرافي المميز، بحيث تقع عند ملتقى قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا.
كما أن تاريخها الطويل وموقعها كمركز تجاري وثقافي مهم، جعلها ملتقى للحضارات والثقافات المتعددة.
ويمكن القول إن التنوع العرقي في مصر هو إحدى أهم مميزاتها، بحيث يساهم في إثراء الثقافة المصرية وجعلها أكثر تنوعاً وتعدداً.
تتابعت في أرض مصر عدة حضارات، فكانت مهداً للحضارة الفرعونية، وحاضنة للحضارتين الإغريقية والرومانية، ومنارة للحضارة القبطية، ومستقرّاً للحضارة الإسلامية، وهو ما ساهم في تميز شعبها وجعل منه نسيجاً متماسكاً متعاضداً في مواجهة المحتل، ومتسماً بالود والكرم والتسامح.
وفي هذا يقول المفكر اليساري الدكتور ميلاد حنا: "إذا كانت أميركا تدّعي أنها بوتقة الانصهار للجنسيات والشعوب التي غادرت إليها عبر القرون الأربعة الأخيرة، وتزعم أنها كونت من هذا الخليط العجيب ما يسمى "الشخصية الأميركية"، فلمصر أن تتباهى بأنها أقدم "بوتقة انصهار" في العالم، وأن نتاج هذا الانصهار هو سبيكة واحدة متجانسة، نظراً إلى العمق التاريخي لهذا الانصهار، ولأنه تم عبر قرون أطول".
لذلك، فإن الحديث عن النقاء العرقي في مصر والمترافق مع دعوات مثل "كيميت" و"الهوية القومية المصرية"، يكشف إما عن جهل أو هزل. فالواقع يدحضها، بحيث لا يمكن الزعم أن هناك أشخاصاً من "سلالة نقية للفراعنة"، كما لا يمكن الزعم أن هناك أشخاصاً من "سلالة عربية نقية" أو غيرها من الأقوام التي استقرت في مصر. لقد ذابت عناصر جميع السلالات التي عاشت في مصر في ظروف متعددة، وامتزجت، فتولدت شخصية مصرية تحمل عناصر من أغلبية تلك السلالات.
يعني هذا الأمر أن الشخصية المصرية مرت في عدد من المراحل المتتابعة، التي تركت آثارها فيها، أي أنه حدث تمازج عرقي وتمازج ثقافي مع عدد من الحضارات، ونهلت مصر من منابع ثقافية متعددة، وانصهر في داخلها أجناس شتى كوّنوا على مدار آلاف السنين الشخص المصري الراهن.
وفي هذا يرى الكاتب والمفكر المصري الدكتور ميلاد حنا أنه "من الناحية التاريخية، لا بد من أن تكون الشخصية المصرية تأثرت بالرقائق المتتالية للحضارات التي عاصرتها مصر، والتي تمثلت بالحقبة الفرعونية في مراحلها المتعددة، وما تلاها من الحقبة اليونانية – الرومانية، وهي متداخلة في المرحلة القبطية، ثم الحقبة الإسلامية في مراحلها المتعددة".
وفي هذه المراحل المتتالية غيرت مصر لغتها وديانتها ثلاث مرات، فكانت –أولاً - اللغة المصرية القديمة، والتي كانت بحروف هيروغليفية، ثم غيرت مصر لغتها إلى اللغة القبطية، وصاحب ذلك تغيير الديانة إلى المسيحية. ومع دخول العرب إلى مصر، وبالتدريج، تم التغيير الثالث والأخير فتحولت أغلبية من الشعب المصري إلى الإسلام، وبقيت أقلية مسيحية، ولكن شعب مصر بأسره تحول إلى اللغة العربية، ومن ثم تكوَّن شعب واحد يتحدث لغة واحدة وله خصائص حضارية وإنسانية واجتماعية واحدة، وإن كانت هناك ديانتان تتعايشان منذ قرون.
وكان الباحث والمفكر الدكتور جمال حمدان ذكر أن هناك ثلاث فترات أساسية وحاسمة في تكوين مصر، جنسياً وثقافياً، تبرز تماماً كالقمم فوق كل تاريخها الطويل المعقد بكل مؤثراته الثانوية الجانبية والهامشية، هي مرحلة ما قبل الأسرات، ثم الفتح العربي، ثم موجة بني هلال وبني سليم في القرن الحادي عشر الميلادي.
فالأولى وضعت أساس تكوين مصر الجنسي، والثانية عرّبت مصر، والثالثة أكدت هذا التعريب بصفة حاسمة وقاطعة.
أمّا الموجات البشرية الهائلة، التي هاجرت إلى مصر ووفدت عليها واستوطنتها وحملت معها أجناساً وأعراقاً شتى، فامتزجت كغيرها بالشعب المصري وانصهرت داخله، فساهمت - أيضاً- في تكوين الشكل الجنسي للمصريين. وبلغ عدد الموجات البشرية إليها نحو 40 موجة، بين غزوات وهجرات وافدة، منها الغزوات الآسيوية (الهكسوس والفرس)، والأوروبية (اليونان والرومان)، فضلاً عن الفتح الإسلامي، الذي كان له الأثر الفعال، والذي ما زال حاضراً بقوة من خلال اللغة والدين.
وهاجر إلى مصر كثير من الأعراق واستوطنوها، مثل: الأتراك والشركس والسودانيين والأرمن، وكانت هناك هجرات أندلسية قبل سقوط غرناطة 1492 ميلاديّاً، وبعده… إلخ.
وعلى رغم تعدد تركيبتها، إثنياً وعرقياً، فإنها تذوب جميعاً وتنصهر في بوتقة واحدة، ومن الصعب أن نجزم بوجود عنصر بشري سائد في مصر على حساب عنصر آخر. فالمزيَّة، التي حظيت بها مصر منذ دهور، هي عملية الانصهار والدمج اللذين اعتصرا كل تلك الأعراق البشرية ومزجاها فيما يسمى: الشعب المصري.