احذروا العملات الرقمية.. قد تكون مكيدة "بونزي" الرقمية
تقييم العملة الرقمية المشفرة مبنيّ على تقديرات الأشخاص القيمين عليها، ويعتمد على قواعد العرض والطلب الهشة، فلا احتياطي ذهب يوازيها، ولا استثمارات تجارية عملاقة تحميها، ولا هيئات دولية ناظمة تضمن حقوق المستثمرين.
في 22 أيار/مايو 2010، دفع الجوع الأميركي لازلو هانيتش إلى شراء فطيرتي بيتزا. ولأنه لم يكن يملك نقوداً في جيبه حينها، أقنع المعنيين بعد جهدٍ بتسديد قيمة البيتزا بعملة البيتكوين الرقمية المشفرة، وحوّل 10 آلاف بيتكوين إلى حسابهم بدلاً من الدولارات.
بعد 9 أشهر فقط، أصبحت قيمة كل بيتكوين توازي دولاراً أميركياً، فاكتشف لازلو أنه دفع 10 آلاف دولار ثمناً لفطيرتي بيتزا. كل يوم، كان يقارن عملة البيتكوين بالدولار، ويتأكد أن ما اشتراه كان أغلى بيتزا في التاريخ.
كانت تلك أول عملية تجارية بالعملة الرقمية المشفرة. قبل ذلك التاريخ، كانت عملة البيتكوين الرقمية مجهولة، ويعرفها عدد بسيط من الناس، وترفض المؤسسات اعتمادها في التداولات المالية. بعدها، تشجع الأفراد والشركات على اعتمادها وتداولها سعياً لكسب المال وزيادة الأرباح، مراهنين على ارتفاع أسهمها وتفاؤل التوقعات بالعملات الرقمية المشفرة بشكل عام.
وبينما كانت البيتكوين تنتشر بشكل كبير وتحظى باهتمام المستثمرين والخبراء، كان مهندسا البرمجيات بيلي ماركوس وجاكسون بالمر يستهجنان انبهار الناس بها، ويتساءلان: كيف يمكن لعاقلٍ أن ينفق مدخراته على الاستثمار في عملة رقمية لا قيمة فعلية لها!؟ بعد تفكير، قررا إطلاق عملة رقمية ساخرة، بهدف توعية الناس وإضعاف جموح الجمهور إلى الاستثمار في البيتكوين.
اتخذا من وجه كلب ساخر ورائج آنذاك شعاراً لعملتهما الافتراضية المشفرة، وسمّياها "Dogecoin". عملة "دوجكوين" التي انطلقت كمزحةٍ توعوية سرعان ما أخذها الناس على محمل الجد، وراحوا يستثمرون بها، حتى صارت قيمتها ترتفع شيئاً فشيئاً بفعل تزايد الطلب عليها، ولا سيما بعد تغريدات الملياردير الأميركي إيلون ماسك، صاحب شركة تيسلا، الذي أيد هذه العملة ودعمها.
كان غلوبر كونتيسوتو، الأميركي من أصول برازيلية، منتِجاً موسيقياً مغموراً يعمل من غرفة في منزله، ويجني القليل من المال. في أحد الأيام، قرر أن يستثمر كل ما يملكه في عملة "دوجيكوين". وفي غضون شهرين فقط، ارتفعت قيمة العملة المذكورة 400%، فأضحى بين ليلة وضحاها مليونيراً.
فرح الشاب الموسيقي بثرائه الحديث، وراح يخبر جمهوره عن نجاحه في الاستثمار في عملة "دوجيكوين". صار ينشر فيديوهات في وسائل التواصل الاجتماعي، ليخبر الناس كيف جعلته العملات الرقمية من أصحاب الملايين بسرعة قياسية، ما شجّع متابعيه على أن يحذوا حذوه، ويستثمروا بهذه العملة، لعلّهم يصبحون مثله.
في عالم الأعمال، يستثمر رجال الأعمال في الشركات القائمة بعد مراقبة المنتجات والاطلاع على خطط الأعمال الاستراتيجية والموازنات ودراسة الجدوى الاقتصادية وتقييم الفرص المتاحة والمخاطر الكامنة أو يستثمرون في الشركات الناشئة الواعدة بمشاريع اقتصادية ثورية وعصرية متينة الرؤية والأهداف وذات نموذج أعمال قوي ومضمون الأرباح على المدى الطويل، لكن على مستوى العملات الرقمية، الأمر مختلف. لا قواعد علمية واضحة ودقيقة هنا.
تقييم العملة الرقمية المشفرة مبنيّ على تقديرات الأشخاص القيمين عليها، ويعتمد على قواعد العرض والطلب الهشة، فلا احتياطي ذهب يوازيها، ولا استثمارات تجارية عملاقة تحميها، ولا هيئات دولية ناظمة تضمن حقوق المستثمرين.
لذلك، توصّل بيل غايتس، مؤسس شركة "مايكروسوفت"، إلى أنَّ العملات الرقمية المشفرة هي عملات وهمية، قائلاً: "إن قيمة الشركات تُقدّر بناءً على مدى نجاحها في إنتاج منتجات رائعة ومفيدة، فيما تقدر قيمة العملات المشفرة بناءً على قرارات شخصية اعتباطية".
ويرى جون ريد ستارك، الرئيس السابق ومؤسّس مكتب هيئة الأوراق المالية والبورصات، أنَّ العملات الرقمية المشفّرة تعتمد على الإعلانات لحثّ الناس على الشراء، سواء عبر وسائل التواصل أو الإعلانات التلفزيونية واللوحات الدعائية أو عبر الكلام المباشر من المستفيدين، فيما الأسهم الحقيقية، مثل أسهم "آبل" و"مايكروسوفت" وغيرها، لا تستخدم الطرق المذكورة، ولا تستجدي المستثمرين، وتلجأ إلى الإعلانات في حال واحد، لتسويق منتجاتها، وليس لبيع أسهمها.
لكن إذا كانت الضبابية تتحكّم في مشهد العملات الرقمية المشفرة، فلماذا يقبل الناس على الاستثمار بها؟
ثمة سلوكيات مشتركة عند المتداولين بالعملات الرقمية المشفرة. بدايةً، يستثمر البعض في العملة الرقمية الجديدة، فيحققون أرباحاً سريعة. عندها، يبدأون الحديث عن أهمية الاستثمار بالعملات المشفرة أمام أقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم عن حسن نية أحياناً، كي يستفيد مجتمعهم، وأحياناً كثيرة من أجل حثّ الناس على شراء العملة الجديدة. وبذلك، يرتفع سعر العملة الرقمية أكثر، فتزداد أرباحهم.
إنَّ الناس فطرياً يخشون أن تمرّ الفرص أمامهم، ولا يظفرون بقسطٍ منها، ويخافون أن يصبح الآخرون أثرياء جراء تداولهم بالعملات الرقمية دونهم، فيسرعون إلى الشراء، غير آبهين بالعواقب أو الخسارة، وهدفهم هو أن يجاروا من سبقهم، ليتشاركوا معهم كعكة الثراء.
هذه السلوكيات يكررها الناس من دون أن يتعظوا من أسلافهم، ولكنهم يقعون فريسة للاحتيالات والمكائد المالية على مر العصور. في العام 1920، كان تشارلز بونزي يقنع الناس بالاستثمار في تجارته بربح مضمون بنسبة 50% خلال 45 يوماً فقط. لم يكن بونزي تاجراً فذاً، ولم تكن تجارته تدرّ الملايين، إنما كانت وهمية احتيالية. رفض بونزي تفسير طريقة أعماله وحجمها للمستثمرين، متذرعاً بسرية تجارته لضمان أرباحه، بيد أنه كان في الواقع يتلاعب بأموال الناس بتسديد عائدات المستثمرين القدامى من الأموال التي يودعها المستثمرون الجدد، بدلاً من تسديدها من الأرباح، وهكذا دواليك، من دون استثمار حقيقي أو أصول ملموسة تضمن الاستثمار، ولو جزئياً.
وعلى الرغم من القبض على تشارلز بونزي، ثم إطلاق سراحه بعد انتهاء محكوميته، وقضائه السنوات الأخيرة من حياته في فقر مدقع، فإنَّ أسلوبه الاحتيالي اكتسب شهرة واسعة، وصارت طريقته تُعرف باسم "مكيدة بونزي"؛ هذه المكيدة التي يعتمدها كثيرون في كل دول العالم، وعلى مستويات متعددة، ربما أبرزها الاحتيال الكبير في العام 2008، الذي قام به برنارد مادوف، المصرفي الأميركي والرئيس غير التنفيذي لسوق الأسهم في "ناسداك". وقد قدرت الخسائر التي تسبّب بها مادوف بنحو 60 مليار دولار.
مع تطور التكنولوجيا وتقنيات البلوكتشاين المعقدة التي أسهمت في طفرة العملات الافتراضية وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على الحياة اليومية، وفي ظل التضخم الاقتصادي العالمي وفوضى التداول بالأسواق المالية، ولا سيما العملات الرقمية، تزداد المخاطر من وقوع الناس ضحايا مكائد واحتيالات مالية، فالهوس بجني الأرباح والضغط الاجتماعي يقودان إلى الاستثمار من دون وعي ودراية.
وعلى الرغم من أنَّ العملات الرقمية المشفرة قد تجعل الناس أثرياء حين ترتفع قيمتها بطريقة سريعة وغير متوقعة، فإنَّها هشّة جداً إلى درجة أنها قد تخسر قيمتها بشكل دراماتيكي، وبسرعة قياسية لا يمكن للمتداولين تداركها. ربما يكون سوق العملات الرقمية المشفرة شكلاً جديداً وعصرياً من "مكيدة بونزي" الشهيرة!.