إردوغان في ولايته الثالثة... براغماتية حدودها المصالح وترسيخ نموذج عودة الأمة إلى الجذور
لم تكن المرحلة التي قاد فيها إردوغان السياسات التركية مطمئنة للغرب، إذ ترافقت التغييرات التي طالت بنية الحكم في الداخل مع انقلاب على مستوى التوجهات الخارجية.
لم يكن الاهتمام الأوروبي بالانتخابات الرئاسية التركية عادياً، إذ إن قناعة تفترض أن المواجهة الانتخابية بين الرئيس إردوغان ومنافسه كمال كليجدار أوغلو ستشكل إطاراً حاكماً لموقع تركيا ودورها، بما يفترض إعادة قراءة سريعة للمحددات الحاكمة للعلاقة الأوروبية-التركية.
فالقضايا التي كانت عالقة بين الطرفين في ظل رئاسة الرئيس إردوغان، من قضية التعقيدات التي تضعها أوروبا لعرقلة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، مروراً بأزمة اللجوء السوري والعراقي المتوجّه إلى أوروبا، وصولاً إلى العلاقة مع روسيا ومحاولة رسم إطار جديد لموقع تركيا في ظل رئاسة إردوغان، لم تكن تدلل على توافق أو تكامل، وإنما كانت تعبّر عن اتجاه العلاقة بينهما نحو أفق مسدود يجعل من إمكانية التدخل في الانتخابات، إلى جانب المعارضة أمراً ضرورياً. فالرؤية التي سوّق لها كمال كليجدار أوغلو، والتي عبّر عنها خلال حملته الانتخابية، لم تكن بعيدة عن ما يفترضه الغرب حاجةً حيوية لأمنه القومي الذي تهدده مخاطر تتعلق بالإصرار الروسي على كسر الأحادية الأميركية وتحقيق مجال حيوي يضمن الأمن القومي الروسي في شرق أوروبا.
بالطبع، لا يمكن قراءة الموقف الحقيقي للقوى الغربية من خلال ما سوّقت له منظومتها الإعلامية التي دعت منذ أشهر إلى ضرورة كسر الرئيس إردوغان في الانتخابات والمساعدة في وصول كليجدار أوغلو تحت ذرائع تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان وضرورة البحث عن ما يضمن تمثيل مختلف شرائح المجتمع التركي، بعيداً عن الشكل الرئاسي الذي ألغى تأثير التعددية في القرار التركي وجمع السلطات كافة في يد الرئيس.
فالتقدير الغربي لأي حدث دولي لم يكن يوماً مرتبطاً بمدى توافقه مع الرؤى الأيديولوجية والفكرية والقيمية الغربية، وإنما كان دائماً يُقدّر بما يقدمه من مزايا وأدوات تضمن تحقيق مصالحه الحيوية في المقام الأول. في هذا الإطار، يمكن من خلال التعارض بين اتجاهات السياسة الخارجية التركية والغربية التحقق من التوافق الأوروبي-الأميركي على ضرورة التخلص من إردوغان. وبذلك لن تكفي التعليقات التي سارع القادة الغربيون إلى إطلاقها للتهنئة بمناسبة إعادة انتخاب الرئيس إردوغان، والتي أوحوا من خلالها بالوقوف مع تركيا في خندق واحد لمواجهة تحديات مشتركة.
لم تكن المرحلة التي قاد فيها إردوغان السياسات التركية مطمئنة للغرب، إذ ترافقت التغييرات التي طالت بنية الحكم في الداخل مع انقلاب على مستوى التوجهات الخارجية. وإذا كان من الضروري القول إن الأسباب التي دفعت الجانب الأوروبي إلى إبداء الامتعاض من توجه إردوغان كانت ترتبط بمدى إصراره على تركيز القرار السياسي التركي في مؤسسة الرئاسة، مع ما يعنيه هذا الأمر من فعالية وسرعة من دون الوقوع في فخ الشلل الذي يسببه تعدد المراكز المؤثرة في اتخاذ القرار، حيث تنعدم إمكانية التأثير والتدخل الخارجي فيه، فقد تجلت إشكالية الغرب في القلق من وجود دولة تتسم بالمركزية وتتبنى في علاقاتها الخارجية توجهاً سياسياً أرساه إردوغان وفق شروط السيادة والمصلحة القومية، بعيداً عن أي مراعاة للمصالح الغربية.
فالانقسام العمودي الذي يسببه التعارض الأيديولوجي بين حزب "العدالة والتنمية" ذي التوجه الإسلامي الساعي لإعادة تركيا إلى ما قبل أتاتورك من جهة، والتيارات العلمانية والكردية التي تعد هذا التوجه إلغاءً لخصوصياتها ولصورة تركيا الغربية، يفقد جاذبيته كعامل مساعد في تأثير الغرب في التوجه التركي في ظل النظام الرئاسي، وبالتالي يفرض عليه ضرورة مقاربة العلاقة مع تركيا وفق نهج مختلف عن ما كان قائماً. فالرؤية التي عبّر عنها إردوغان في خطاب النصر تحت شعار مئوية تركيا تؤكد إصراره على استكمال مشروع بناء الدولة الحديثة ذات التوجه لحجز مقعد متقدم في إطار التوازن الإقليمي المستجد.
يمكن القول إن الرؤية التركية للمرحلة المقبلة لن تبتعد عن الواقعية والبراغماتية اللتين مارسهما إردوغان منذ أصبح رئيساً للوزراء عام 2003. فالخيارات السياسية التي تبناها في الفترة القريبة الماضية، لجهة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، ستبقي على نوع من الهدوء الحذر انطلاقاً من سعي تركيا لموازنة مصالحها بين الشرق والغرب.
فالإصرار التركي على التنقيب عن النفط في المنطقة المتنازع عليها مع اليونان ستقابله ليونة تركية تجاه مطالب الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالدور التركي في قضايا الهجرة ومحاربة الإرهاب، وتجاه التوجه الأميركي لضم السويد إلى حلف "الناتو". وإذا كان من الممكن التقدير أن معالجة ملف الهجرة غير الشرعية والمنطقة المتنازع عليها مع اليونان، بالإضافة إلى ملف عضوية السويد في "الناتو" ستتصف بالهدوء، فإن ملف الأمن، خصوصاً ما يتصل بأوكرانيا والطاقة والعلاقات مع روسيا ستشكل مصدراً لتوتر العلاقات بين الطرفين في أي لحظة.
فالنجاح الذي حققته الدولة التركية كوسيط بين أوكرانيا وروسيا لم يكن مناسباً للتوجه الغربي، إذ كانت تلك الدول تفترض تبعية تركية للخيارات الأطلسية لناحية الالتزام بالعقوبات الأحادية الأوروبية والأميركية على روسيا، إذ ترفض تركيا هذا التوجه وتربط التزامها فقط بالعقوبات الأممية التي يقرها مجلس الأمن. بالإضافة إلى ذلك، تثير مسألة العلاقات التركية-الروسية حفيظة الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي ترى أنه على تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، الالتزام بالحظر الغربي على النفط والغاز الروسيين، وعدم الالتفاف على المقاطعة الأوروبية للنفط والغاز الروسيين من خلال الاستفادة من أنابيب البحر الأسود.
من ناحيتها، لن تبدي الإدارة التركية أي تراجع أو ليونة في هذا الملف، خصوصاً وأن الرئيس إردوغان قد عبّر في أكثر من تجمّع انتخابي عن صوابية خياراته، إذ استطاع أن يحيد تركيا عن تبعات هذه الحرب والنتائج الكارثية التي أصابت الدول الأوروبية التي فقدت، من خلال انخراطها إلى جانب أوكرانيا والولايات المتحدة، أي قدرة على المبادرة في ما يتعلق بالأزمات التي نجمت عن هذه الحرب.
وإذا قاربنا ملف العلاقات الثنائية الروسية-التركية، حيث التعاون العسكري والاقتصادي، فإن خارطة الطريق للتعاون الاقتصادي الروسي-التركي التي تستهدف رفع التبادل التجاري إلى 100 مليار سنوياً، والتي تم التوقيع عليها بعد بدء العملية الروسية في أوكرانيا، أي في آب/أغسطس 2022، تؤكد إستراتيجية الخيارات التركية وانعدام إمكانية المساومة عليها. فإذا ربطنا هذه الاتفاقية بالتعاون العسكري الذي توجته اتفاقية شراء تركيا للدفاعات الجوية الروسية S 400، على الرغم من الرفض الأميركي والأوروبي والذي تمت ترجمته بسلسلة من العقوبات على تركيا، فإن الإصرار التركي على هذه الخيارات يؤكد أن الرئيس التركي لن يقدم أي تنازل في ما يعدّه مساساً بالحق السيادي التركي المرتبط بالمصالح القومية.
إضافة إلى ذلك، تثير الرؤية الأيديولوجية لحزب "العدالة والتنمية"، والتي تجمع بين التوجه الديني والتوجه القومي، أي العودة بالأمة إلى الجذور، سخطاً لدى أكثر الدول الأوروبية، إذ لم تكن هذه الأخيرة تتوقع، انطلاقاً من الانغماسة التركية في سوريا والعراق، التفافاً تركياً سريعاً نحو دول الجوار والدول الإسلامية للتعويض عن عدم قبول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. في هذا الإطار، تمثل محاولة العودة التركية إلى سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار رفضاً للسياسات الغربية التي تفترض انتظاماً تركياً خلف خياراتها ومصالح دولها.
وعليه، يمكن القول إن المسار الذي سيلتزم به الرئيس التركي رجب طيب إردوغان سيجمع بين براغماتية تستهدف عدم تفجر العلاقة مع الأوروبيين والمحافظة على الموقع الحيوي التركي الذي كرسته العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبين تشدد تجاه محاولات التدخل الغربية والمساعي التي تستهدف التأثير في القرارات السيادية التركية، لناحية تقدير المصالح وترسيخ النموذج التركي القومي المستقل في الوعي الجماعي الغربي والعالمي.