أميركا والهجرة الجماعية من الصهيونية
ينحدر الطلبة في الجامعات الأميركية من جيل متمرد على عقلية التلقين الأبوي، في وقت يخاطبهم العجوز بايدن بهذا العقلية الفوقية، وهو الذي سبق أن قال عن نفسه إنه صهيوني، وإن علاقته بالصهيونية لا تتزعزع.
أصبح كثير من يهود أميركا، وخصوصاً جيل الشباب، يخجلون بهويتهم في ظل ربطها بالحرب على غزة. والهوية اليهودية إشكالية في الأساس، بعد أن شيطنتها الحركة الصهيونية، وارتبطت بها عضوياً، فبات اليهودي صهيونياً إسرائيلياً بلا تفصيل أو تأصيل، وهو ما بات على المحك مع تطور المشهد في أهم الجامعات الأميركية، وهي تتحدى الصهيونية، ومعها نفوذها في إدارة هذه الجامعات.
اليوم، امتلك الشبان الأميركيون، أو كثيرون منهم، الجرأة على أن تعتصم نخبته الأكاديمية في ساحات الجامعات الأميركية الأربعين الكبرى، رفضاً لحرب الإبادة الإسرائيلية في فلسطين، وخصوصاً في ظل دعم اللوبي اليهودي الأميركي لهذه الحرب الوحشية. يتحمل هؤلاء الطلاب، ومعهم كثيرون من أعضاء هيئة التدريس في الفلسفة والتاريخ والاقتصاد، حملات الاعتقال والسحل والضرب، في ظل تهديد بتدخل الحرس الوطني الأميركي، ووسم الحراك بأنه تمرد عسكري يتوجب قمعه، ربما لما يشبه ما سمّوه يوماً؛ ربيع بكين، قبل عقود غابرة من الزمن الأميركي.
وكان آلاف اليهود من طلبة الجامعات الأميركية، وبعضهم أبناء لزعماء صهاينة، عبّروا عن شعورهم بالقرف مما يروّجه الإعلام الأميركي والإعلام الإسرائيلي عن تعرضهم للضغط النفسي من جانب زملائهم نظراً إلى هويتهم الدينية، تحت المسمى الزائف معاداة السامية، لمجرد الهتاف لفلسطين أو رفض الحرب.
تُظهر ردة الفعل العارمة ضد الحراك الطلابي الأميركي، والتي اجتاحت النخبة السياسية في أميركا، مدى المأزق الذي وصلت إليه الحال، وحصوصاً عند متابعة ما صدر عن زعماء هذه النخبة، بما فيها أغلبية الجمهوريين والديمقراطيين، سواء في إدارة بايدن الديمقراطية، أو في مجلسَي الشيوخ والكونغرس، وحتى في كثير من مجالس الولايات، وربط هذا الحراك تارة بالنازية، وأخرى بمعاداة السامية، وبتأييد "حماس الداعشية"، وانتهاءً بدعم "إيران الفارسية الإرهابية".
وتملّك الفزعُ مكتبَ رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية، بيبي نتنياهو وحكومته اليمينية، على نحو جعلهم يربطون المشهد الراهن في الجامعات الأميركية بحقبة الثلاثينيات من القرن الماضي، كأن يهود العالم أمام مذابح هتلرية جديدة.
هذا الربط من نتنياهو بين مشهدية الحراك الراهن، وهو حراك طلابي أميركي عفوي إنساني بريء، وبين النزعة النازية ضد اليهود في ألمانيا قبل قرن من الزمان، يعبر عن عقيدة نتنياهو بشأن رؤية اليهودية عبر النافذة الصهيونية، وهي رؤية عمياء عن أدنى حس إنساني. فاليهودي لا قيمة له في نظر نتنياهو إن لم يكن صهيونياً، فهؤلاء الطلبة اليهود المشاركون في الحراك، بالنسبة إلى نتنياهو، خونة لمجرد اعتراضهم على مجازر الصهيونية الوحشية في فلسطين.
ردة فعل النخبة السياسية الأميركية الإسرائيلية المجنونة ضد الحراك الطلابي الأميركي، وقد امتد إلى أوروبا وأستراليا، تخلق كل يوم تفاعلاً إضافياً، نحو عناد طلابي يتجاوز المطالب الطلابية البريئة، وهي تتمحور حول أمرين رئيسين:
– التوقف عن التعامل مع الشركات المصنعة للأسلحة العسكرية التي تزود "إسرائيل" بالأسلحة.
- التوقف عن قبول أموال الأبحاث من "إسرائيل" للمشاريع التي تساعد الجهود العسكرية للبلاد.
وكان بعض الطلاب، ومنهم يهود، في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نشروا أسماء عدد من الباحثين الذين يقبلون أموالاً من وزارة الأمن الإسرائيلية، لمشاريع طائرات مسيّرة ومنظومات للصواريخ، وصلت إلى أكثر من 11 مليون دولار على مدى العقد الماضي، بينما لم تجب إدارة هذا المعهد على طلبات عبر البريد الإلكتروني للتعليق على هذا الزعم.
كوين بيريان، طالب السنة الثانية، وهو زعيم مجموعة طلابية يهودية تدعو إلى وقف الحرب على غزة، يقول في هذا الخصوص إن "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا متواطئ بصورة مباشرة مع كل هذا"، وأضاف "أن هناك زخماً متزايداً لمحاسبة الكليات على أي دور تؤديه في دعم الجيش الإسرائيلي، لأننا جميعا نقع في النار نفسها. إنهم يجبروننا، كطلاب، على أن نكون متواطئين مع هذه الإبادة الجماعية."
تصاعُدُ هذا الزخم الطلابي، بحسب القائد اليهودي الطلابي، كوين بيريان، في محاسبة تعامل الجامعات مع الآلة العسكرية الإسرائيلية، في حربها ضد غزة، يمكنه، في ظل ردة الفعل الرسمية الجامحة، من أن يدفع الأمور نحو تجاوز هذه المطالب الطلابية المجردة، إلى ما هو المواجهة الكاملة مع الصهيونية وإفرازاتها في الغرب، وهي مواجهة تستجلبها بالضرورة الاندفاعة الإسرائيلية المحمومة لمزيد من الوحشية في فلسطين، وخصوصاً النيات ضد رفح، مع القتل اليومي في غزة والضفة، وما يواكب ذلك من إسناد أميركي، تسليحياً ومالياً وسياسياً، ومشاركة فعلية سرية ضد غزة ولبنان وإيران، وعلنية ضد اليمن والعراق وسوريا.
تمترسُ النخبة السياسية الأميركية/الإسرائيلية، ومحاولة شيطنة الحراك الطلابي على براءته، وهو حراك يتعاظم، يتحولان كل يوم إلى سياسة كسر عظام، تميل لمصلحة هذا الحراك، وخصوصاً مع ما بدأ يتمتع به من تعاطف شعبي عالمي، والأهم من دفاع عملي من بعض زعماء القضاء الأميركي، عبر إطلاق سراح الطلاب المعتقلين، مع إدانة لتدنيس الحرم الجامعي، وخصوصاً في جامعة كولومبيا.
وجاءت المواقف المعلنة من بعض الزعماء اليساريين في أميركا، وخصوصاً حزب الخضر، وقد تم اعتقال مرشحته للرئاسة الأميركية، جيل ستاين، بالإضافة إلى نواب في الحزب الديمقراطي، مثل بيرني ساندرز، والذي دان تهمة معاداة السامية بحق الطلاب، لتسجل نجاحات لافتة لهذا الحراك، في ظل ارتباك ملحوظ في الوسط الإعلامي الأميركي، الذي بدأ يتعاطى، وإن بالتدريج، مع الحقائق الدامغة الذي أفرزها هذا الحراك على المستوى المجتمعي الضاغط.
يندفع الحراك الطلابي الأميركي، سواء بإرادته أو من دون إرادته، نحو قضيتين كبيرتين لم يقصدهما هذا الحراك في عفويته، ابتداءً، أُولاهما المفاصلة الجماعية مع متعلقات الحركة الصهيونية في النسيج الأميركي، ثقافياً وإعلامياً وسياسياً. وثانيتهما، وهي الأخطر: بعث المعاني النفسية والقيم الإنسانية في المجتمع الأميركي، في الوقت الذي غلبت على هذا المجتمع القيم المادية المعادية للروح. كيف ذلك؟
ينحدر الطلبة في الجامعات الأميركية من جيل متمرد على عقلية التلقين الأبوي، في وقت يخاطبهم العجوز بايدن بهذا العقلية الفوقية، وهو الذي سبق أن قال عن نفسه إنه صهيوني، وإن علاقته بالصهيونية لا تتزعزع، ثم يخرج اليوم على نخبة بلاده الأكاديمية من قادة المستقبل، ليقول لأفراد هذه النخبة صراحة: أنتم لا تفهمون ما تفعلون، وهم في أوج نشاطهم العلمي كطلبة مجتهدين مميزين أكاديمياً، واكتشفوا أن الطبقة المتنفذة في المجتمع تخدعهم، وهي تعمل لمصلحة "دولة" غريبة بعيدة، تمارس الإبادة الجماعية بحق شعب أعزل.
اختلط الحابل بالنابل في أميركا، فالرئيس بايدن يعترف بأن "جيش إسرائيل" يقصف غزة بصورة عشوائية، ويتسبب بمقتل مئة وخمسين فلسطينياً يومياً، منذ السابع من أكتوبر، وإن بدأ بـ"هجوم فلسطيني دموي"، في وقت يعترف وزير الدفاع الأميركي، أوستن، بمقتل عشرات الآلاف من الأطفال في غزة، على يد "الجيش" الإسرائيلي. وبات الجيل الأميركي الناشئ يعي أن ذلك يحدث بالسلاح الأميركي حصراً، من دون مصلحة أميركية، بل في ظل معارضة أميركية رسمية علنية. هنا دخل المشهد الأميركي في تضارب، ليفرز هذا الناتج الطلابي الشعبي الذي يصغي، للمرة الأولى في تاريخه، إلى قضية خارج اهتماماته الأساس، ممثلةً بالصحة والعمل والضريبة والتعليم، لتصبح، على رغم كونها قضية خارجية، محدِّداً فعالاً في حراك مجتمعي واسع.
يندفع هذا الحراك الطلابي إلى تغيير جذري في المشهد الأميركي، في حال تكلس السياسة الأميركية خلف أقوال تنقضها الأفعال تبعاً للوحشية الإسرائيلية، في خبث سياسي أميركي بات يترنح، نحو تعديل مزاج الشارع لبقية من القيم الإنسانية، في اكتشاف الذات الأميركية الوطنية بعيداً عن حبائل الصهيونية المادية.