أميركا لا يمكنها قيادة العالم بلا سيطرتها على أوراسيا
منذ تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، والولايات المتحدة تقود حلفاءها لتثبيت هيمنتها المطلقة، ومنع ظهور منافس جديد، وكون أوكرانيا "قلب منطقة أوراسيا"، ذلك يوليها أهمية كبرى من أجل ترسيخ الأحادية القطبية.
عادت الحكومات الأوروبية إلى بيت الطاعة الأميركي، يحدوها الذّعر، مصحوباُ بتأويلات تنسج مستوىً من خداع غير مسبوق، يعلّب شعوب القارة في صندوق دوغمائي يحيل غنائيات الحكام عن الديمقراطية على مزاعم خاوية.
تزوير الوقائع والحقائق شيمة راسخة في سلوك الغرب الاستعماري خلال مئات الأعوام. وفجاجته اليوم في "الحدث الأوكراني"، تعود إلى طبيعته، مفصلياً وتاريخياً، وكذلك هو النفاق مفصلي وتاريخي، لكنه هذه المرة موجَّه إلى الجمهور الغربي قبل غيره، فهو من سيحمل أعباء الحرب على روسيا.
تجييش يذكّر بماضي الحملات الصليبية. وبروباغندا تكشف غرور الحكام بنفاذ توجيهاتهم للعالم أجمع، كما كان يفعل ملوكهم في زمن احتكار المعرفة، وفرضهم تجهيل أمم الأرض وشعوبها، كثمن للتطور الصناعي، الذي لا يتيح للآخرين إلّا أن يكونوا مستهلِكين مسلوبي الإرادة والوعي قبل المحاصيل.
لكنّ ما كان ممكناً بالأمس، لم يعد كذلك في عالم اليوم، المشبوك معرفياً. بغضّ النظر عن الحجم الهائل للتضليل الممكن، ثمة مساحة للحقائق بحماية "التاريخ"، الذي لم ينجُ من الحكم عليه بـ"الموت". ربما، لتبرير كل موت لاحق ينتج حتماً من هذه الثقافة، التي بقدر ما راكمت من منجزات حضارية، راكمت أهوالاً وجماجم ودماء.
تتخفى خلف الأزمة الأوكرانية أزمات، أغلبيتها مركَّبة ولم يصنعها الأوكرانيون، من دون نكران أن حكومة بلادهم، بتوجيهات الرئيس فولوديمير زيلنسكي، ضحّت بأوكرانيا من أجل أضغاث الانضمام إلى الكتلة الغربية، التي تتحمل مسؤولية الأحداث ودفع أوكرانيا لتكون "طريدة" جديدة، بعد أفغانستان والعراق وسوريا، وغيرها من البلدان والأقاليم أو "الطرائد"، لا فرق، كون معظم الجمهور الغربي لا يعرف، ولا يريد أن يعرف عدد البلدان التي يخوض فيها جنود "الناتو" القتال.
تحت عباءة الديمقراطية تُصاغ الشعارات الأحادية، من "الروس قادمون"، إلى "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، إلى السرديات (اليقينية) بوصف الاحداث بـ"حرب بوتين"، في سذاجة تنفي السياسة، وابتذال من معين الكوميديا السوداء، لمنظومة تفترض أنها حامية لمبدأ "سيادة الدول"، مع أنها تخونه باستمرار وتستخدمه فقط ضد الآخرين، كما هي الحال الآن في الأزمة الأوكرانية، يتم إلغاء تصاعد سلسلة الأحداث من الانقلاب على النظام عام 2014 ، الذي حظيت ألمانيا بـ"شرف" تنظيمه إلى جانب الولايات المتحدة، وصولاً إلى تسعير تحدّي موسكو بتوسعة حلف "الناتو" ليضم أوكرانيا. وفي الأشهر التي سبقت التهاب الجبهة العسكرية، تكثّفت استعدادات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لهذه الحرب، وتم نشر 10000 جندي أميركي في قاعدتها "ألكساندر بوليس" في اليونان، وأجرت مناورات "أوروبا ديفندر"، وأجرت أكبر عملية إنزال بحري منذ الحرب العالمية الثانية في البحر الأسود.
كل ذلك لاستكمال تطويق روسيا من الخارج كي تَتَأَكَّل من الداخل، وتتحول من أكبر بلد مساحةً، إلى مستعمرات منقسمة على ذاتها، متحاربة فيما بينها، مسلوبة الإرادة والثروة، على حد سواء، وما على القيادة الروسية إلّا الاستجابة للأهداف التي تتجاوز تهديد الأمن القومي إلى مخاطر وجودية.
ومنذ تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، والولايات المتحدة تقود حلفاءها من أجل استغلال اللحظة التاريخية وتثبيت هيمنتها المطلقة، ومنع ظهور منافس جديد أو متجدد. فغياب العدو العقائدي لم يبدّل خطط التوسع الرأسمالي، بل ازداد شراهة متطيرة، وأغرق العالم في نزاعات وحروب "أبدية"، ومارس ولا يزال احتقاراً لمبادئ العلاقات الدولية، واستخدم العقوبات الاقتصادية بتوحش أكثر ضراوةً من استخدام السلاح النووي.
خطط الانقضاض على التركة السوفياتية السمينة كانت مُعَدّة سلفاً في أقبية "الديمقراطية" في وزارة الدفاع الأميركية، مع توقع ان تكون مهمة تفكيك الاتحاد الروسي وقضمه، أسهل كثيراً من فرطها الناجح للاتحاد السوفياتي. انطلقت الحملة من تفجير يوغوسلافيا (1991)، حين اعترفت ألمانيا والولايات المتحدة باستقلال كرواتيا، فاشتعلت "الحرب الأهلية" في بلد هو نموذج مصغَّر عن روسيا، من حيث تعدد مكوناته الثقافية الاجتماعية. وآنذاك عادت الحرب إلى أوروبا، لا من أوكرانيا اليوم.
"المُنظّر الإمبريالي"، زيبغينو بريجنسكي، رأى أن أوكرانيا هي قلب منطقة أوراسيا، التي اصطُلح على تسميتها "رقعةَ الشطرنج الكبرى"، معتبراً أن أهميتها لا تقدَّر من أجل ترسيخ الأحادية القطبية. وبعد أن تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، دعا إلى السيطرة عليها، لأن أميركا من دونها لن تستطيع قيادة العالم إلا فترةً قصيرة جداً.
هنري كيسنجر، أبرز زملاء بريجنسكي في التنظير للصهيونية والكولونيالية الجديدة، وضع أوكرانيا، في زمن الحرب الباردة، في صلب الأهداف الأميركية، لانتزاعها من الفضاء السوفياتي بأي ثمن، وهو ما يحول روسيا إلى بلد آسيوي، ويقطع كل صلاتها الحيوية بالقارة الأوروبية.
كلما تراجعت الهيمنة الأميركية، اتسعت دوائر حروبها وإنتاجها للأزمات، وهي اليوم مدفوعة، بضغط أزمتها التاريخية، وضغوطات آنية تضعها فوق برميل بارود اجتماعي، وما الانفجارات "الترامبية" إلّا دلالة على الأزمتين.
ما تسعى له المخططات الغربية، وفق غريزتها الاستعمارية، توقنه روسيا الاتحادية اليوم بعمق ودقة. كما خبرته على امتداد تاريخها، الإمبراطوري والقيصري والسوفياتي، ولم تساوم خلاله على مصالحها العليا، وخاضت كل حروبها من موقع دفاعي، على عكس الحروب الأوروبية والأميركية، التي كانت وما زالت عدوانية على الدوام.