ألمانيا تودّع ميركل وتهزم حزبها
سيكون من الصَّعب بشكل متزايد على أوروبا اتباع سياسة التكامل في غياب أنجيلا ميركل. ومن المرجّح أن تنخرط فرنسا في قيادة الاتحاد الأوروبي في ظلّ الغياب الألماني القسري في الأشهر المقبلة.
خالفت نتائج الانتخابات العامة في ألمانيا معظم التوقعات، وأظهرت أنها أكثر الدورات الانتخابية التي لا يمكن التنبؤ بها خلال الأعوام الـ16 الماضية. ووفقاً للنتائج الرسمية الأولية، فاز الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" بالانتخابات الألمانيّة العامة، متقدماً على حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" قليلاً، لكن اسم المستشار الجديد لم يحسم بعد في ظلِّ تنافس قوي بين زعيمي الحزبين أولاف شولتز وأرمين لاشيت.
جاء حزب "الخضر" في المركز الثالث، والحزب "الديمقراطي الحر" في المركز الرابع، وحزب "البديل" اليميني المتطرف في المركز الخامس. واستفاد حزب "دي لينك" المتطرف بيساريته في دخول "البوندستاغ" من قانون استثنائي يعفيه من تجاوز عتبة 5% من الأصوات، ليكون في المركز السادس.
شارك نحو 60 مليون مواطن ألماني في التصويت (للبرلمان 20)، بينهم 2.8 مليون شاب وشابة ينتخبون لأول مرة، لكنَّ تأثيرهم ضئيل إذا ما قورن بالفئة العمرية الحاسمة من 60 سنة وما فوق، والتي تشكل 38.3% من أصوات الناخبين الذين زادت مشاركتهم عن الدورة السابقة بنسبة 0.4%.
تنقسم الخريطة الانتخابيّة لألمانيا إلى مكاسب قوية للديمقراطيين الاشتراكيين في الغرب والشمال، في مقابل محافظة حزب المستشارة أنجيلا ميركل على معاقلها الرئيسية في الجنوب، بينما يسجّل حزب "الخضر" حضوراً عالياً في جميع مدن البلاد، ويحافظ اليمين المتطرّف على نسبة ما زالت مرتفعة في مناطق ألمانيا الشرقية عموماً، رغم أنها تراجعت بنسبة 2% مقارنة بالعام 2017. وقد حاز ما يقارب 5 ملايين صوت من أصل 60 مليوناً شاركوا في الانتخابات. وبتجديد انتخاب حزب "البديل من أجل ألمانيا"، يتكرَّس وجود حزب يميني متطرف في "البوندستاغ" كأمر واقع.
لا شكّ في أنَّ مفاوضات تشكيل الائتلاف ستكون معقّدة أمام الجميع. تجديد الائتلاف الحكومي الحالي بين "الاشتراكي الديمقراطي" و"الاتحاد الديمقراطي المسيحي" ممكن في الحسابات الرياضية، وأشبه بالمستحيل في ميزان السياسة، وخصوصاً في حسابات أرمين لاشيت الَّذي لن يقبل بأن يجلس في مقعد نائب المستشار إذا كانت هناك فرصة للجلوس على مقعد المستشارية ذاتها. وقد أعرب كلا الحزبين فور صدور نتائج الاقتراع عن رغبتهما في عدم تقاسم السلطة بينهما هذه المرة.
من المتوقّع أن يؤدي كلّ من حزب "الخضر" والحزب الديمقراطي الحر دور صانعي الملوك في المفاوضات لتشكيل ائتلاف حكومي مع أحد الفائزين؛ أولاف شولتز أو أرمين لاشيت. وقد تراجعت فرصة أنالينا بربوك، زعيمة حزب "الخضر"، بعد أن كشفت نتائج التصويت فشل حزبها بالاكتساح الذي رُوِّج له، والذي لم يكن مصيباً بأيِّ قدر، لكن ذلك لن يضعف قدرتها على فرض شروط على طاولات المفاوضات لتشكيل الائتلاف المنشود. وعلى منوالها، سيسعى كريستيان ليندنر، زعيم "الحزب الديمقراطي الحرّ"، لاستثمار موقعه المحوري في العملية.
رغم أنَّ الانتخابات خيضت بعناوين محلّية شبه صافية، لكنَّ عقد المفاوضات مع هذين الحزبين ستتمحور أسبابه حول السياسات الخارجية ذات الأبعاد الداخلية، لا العكس، فمن الصعوبة إقناع حزب "الخضر" بالتخفيف من موقفه الصارم من الصين وروسيا. وعلى هذا النحو، سيتمسّك "الحزب الديمقراطي الحر" بشرط حصوله على وزارة الماليّة، ليتمكّن من "استعادة قواعد الانضباط" لميزانية ألمانيا ومشاركتها في ميزانية الاتحاد الأوروبي، كما يرفض أيّ مسؤولية مشتركة عن ديون دول الاتحاد الأوروبي المتعثرة.
منذ 7 عقود، لم يحصد "الاتحاد الديمقراطي المسيحيّ" أقلّ من 30% من أعداد المصوّتين. الإعلان عن خروج المستشارة الحالية أنجيلا ميركل من الحياة السياسية له تأثير بالغ في هذه الانتخابات، كما ظهر، فثقة الناخب الألماني بشخصها لم تُمنح لخليفتها أرمين لاشيت، الذي سيواجه داخل حزبه تيارات تحمّله مسؤولية الهزيمة. وبالفعل، عزى بعض أعضاء "الديمقراطي المسيحي" انتصار أولاف شولتز الانتخابي إلى ضعف منافسيه، والمقصود بلا مواربة زعيم حزبهم أرمين لاشيت، الذي يحزنه وداع ألمانيا لأنجيلا ميركل بهزيمة حزبها.
سيستمرّ إرث أنجيلا ميركل الشاهق مؤثراً في سياسات "المستشارية الألمانية لفترة طويلة، بغض النظر عن اسم المستشار. بصماتها الأساسية رسّخت مكانة ألمانيا كقوة اقتصادية رائدة في أوروبا والعالم. وقد اجتازت خلال 16 عاماً العديد من العواصف التي واجهتها في كلٍّ من ألمانيا وأوروبا، من الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008 التي هددت منطقة اليورو بالانهيار، إلى أزمة اللاجئين في العام 2015، ثم توّجت الأزمات بأزمة الجائحة في العامين المنصرمين.
تمكّنت ميركل ببراعة من إدارة الأوضاع في ألمانيا وعبر القارة، لكن التحديات تتزايد باطراد أمام أوروبا، وهي تحديات كبيرة وغير مسبوقة، وتطرح مشكلات تتطلَّب حلولاً جذرية، وليست علاجات تجميلية "معتادة، والتحدي المركزي يتمثل بكيفية دفع السياسات نحو المزيد من الوحدة الأوروبية، كشرط رئيسي نحو ما تسميه بروكسل "الاستقلال الاستراتيجي".
سيكون من الصَّعب بشكل متزايد على أوروبا اتباع سياسة التكامل في غياب أنجيلا ميركل. ومن المرجّح أن تنخرط فرنسا في قيادة الاتحاد الأوروبي في ظلّ الغياب الألماني القسري في الأشهر المقبلة، لكنَّ إيمانويل ماكرون لا يحظى بشعبية كبيرة بين التعددية في أوروبا. وفي مسابقة افتراضية بين الاثنين، صوّت المشاركون لمصلحة ميركل بتفوق كبير على ماكرون.