أهلا ألمانيا... فالمنطقة تتّسع للجميع
تلقّت ألمانيا منذ الحرب الروسية - الأوكرانية صدمة، مفادها أن العالم ليس بخير، وأن لغة العرب لم تزل قائمة، وما تمّ الاتفاق عليه بعد الحرب العالمية الثانية، ذهب مع رياح الأطماع في توسع حدود الدول الجيوبوليتيكي.
كشفت مجلة "دير شبيغل" الألمانية أن برلين تدرس تزويد "الجيش" الإسرائيلي بذخائر الدبابات اللازمة لمواصلة الحرب في قطاع غزة، ودعم تل أبيب في كافة ساحات الحرب التي تحيط بها. فتحت حرب غزة شهية الدول ذات التاريخ الاستعماري والتوسعي على العودة إلى الجذور، لهذا باتت المنطقة أمام انفجار بركاني ناتج عن تزاحم الدول لتمتين حضورها.
لا مجال للشكّ لدى المتابع أن ألمانيا في زمن المستشار أولاف سولتش، بدأت في تغيير سياساتها الخارجية. إذ على ما يبدو أحدث هجوم أوكرانيا صدمة دفعت بها لدخول نادي الدول التي تسارع نحو سباق التسلح.
جاءت كلمة المستشار الألماني، أولاف شولتس، في تموز 2022، أمام البرلمان الألماني بأن "برلين ستسلح جيشها حتى تتمكن من الدفاع عن ألمانيا وشركائها ضدّ كل الهجمات" في رسالة قوية وجهها لحضورها القادم، في ظلّ الصراع على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط.
لقد وجدت ألمانيا بعد حرب غزة فرصة للعودة إلى إحياء تاريخ الأمبراطورية، والتي سميت أيضًا الرايخ الثاني، وهي أمبراطورية تأسست عام 1871 بعد اتحاد الدول الألمانية وتنصيب ملك بروسيا فيلهلم الأول قيصرًا للألمان.
ذكرت صحيفة "The Guardian" البريطانية، "إن حقيقة اضطرار الولايات المتحدة بدعم من بريطانيا، إلى استخدام القوة ردًا على هجمات الحوثيين الخانقة للتجارة على السفن في البحر الأحمر، تعكس واقعًا غير مستساغ: نفوذ واشنطن السياسي يتضاءل، ودبلوماسيتها غير فعالة، وسلطتها محل ازدراء. هذا وتعهد الحوثيون بمواصلة الهجمات، أدى إلى حقيقة بأن الولايات المتحدة لم تعد القوة المهيمنة في الشرق الأوسط".
أصاب تقرير الصحيفة البريطانية الحقيقة، من جهة أن منطقة الشرق الأوسط باتت أمام قوة صاعدة بدأت تدفع بالنفوذ الأميركي القائم إلى التراجع، لاسيما في ظل وجودية قوة إيران وحلفائها. لكن ما لم تتطرق إليه الصحيفة هو أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت ساحة تتسع للجميع، وإن الدول ذات التاريخ الإستعماري، بدأت على ما يبدو تفتش فيها عن مجد ماضيها المفقود.
على قاعدة ورثة "الرجل المريض" ولكن الأميركي هذه المرة، وجدت برلين أن لديها فرصة رئيسية للدخول إلى المنطقة من البوابة الأمنية المرتبطة بحماية التجارة الدولية في المنطقة لردع الهجمات على ناقلات السفن في البحر الأحمر.
لهذا توقعت رئيسة لجنة الدفاع في البرلمان الألماني (البوندستاغ) ماري -أغنيس شتراك- تسيمرمان الأحد 14 كانون الثاني الجاري، مشاركة بلادها في مهمة بحرية للاتحاد الأوروبي لحماية الملاحة في البحر الأحمر سيقرها وزراء خارجية دول التكتل هذا الشهر. وقالت تسيمرمان "هذا هجوم على التجارة الحرة ويجب مواجهته".
وأضافت أن هدف المهمة سيكون قيام فرقاطات من الاتحاد الأوروبي بتأمين السفن التجارية التي تمرّ عبر المضيق، حيث تسببت هجمات الحوثيين انطلاقًا من اليمن في إصابة الممرات المائية المؤدية إلى قناة السويس في البحر الأحمر بالشلل تقريبًا. حيث تعتبر مسارات الشحن في المنطقة بين الأهم في العالم، وفي هذا الخصوص ذكرت صحيفة فيلت إم زونتاج، الألمانية، في وقت سابق، إن الفرقاطة الألمانية هيسن ستبحرصوب البحر الأحمر في الأول من شباط القادم.
تطبيقًا للمثل العربي الشعبي القائل "بيت الضيق بيساع ألف صديق" ترزح منطقة الشرق الأوسط تحت تدخلات الدول في شأن قضاياها، مع مفارقة بسيطة، إذ صحيح أنها بمثابة بيت ضيق، ولكن معظم المتدخلين فيها ليسوا بأصدقاء. فجميع من في البيت لديهم طموح العودة إلى زمن الاستعمار والإمبراطوريات على رأسهم ألمانيا التي دخلت المنطقة من بوابة الحرب حديثًا.
لم تكتف ألمانيا بالتدخل عسكريًا في المنطقة، بل تعمل على تمتين علاقاتها مع دول ذات تأثير في القرار السياسي على رأسها المملكة العربية السعودية. لهذا لم يعد مستغربًا ومثيراً توقيت الإعلان الألماني بشأن رفع الفيتو عن بيع مقاتلات "يوروفايتر تايفون" للسعودية، لذا طرحت تساؤلات عن الأسباب التي دفعت برلين لاتخاذ مثل هذه الخطوة "المفاجئة"، هي التي كانت تضع لعدة سنوات مضت حواجز أمام إنجاز العقد المبرم، لعدة اعتبارات تتصدرها قضايا حقوق الانسان.
تلقّت ألمانيا منذ الحرب الروسية - الأوكرانية صدمة، مفادها أن العالم ليس بخير، وأن لغة العرب لم تزل قائمة، وما تمّ الاتفاق عليه بعد الحرب العالمية الثانية، ذهب مع رياح الأطماع في توسع حدود الدول الجيوبوليتيكي.
لم تتوقع ألمانيا أن تلك الدول في أوروبا التي كانت سببًا للحربين العالميتين الأولى والثانية، ستعود إلى حالة "سباق التسلح"، التي اعتبرت أنها أصبحت في أرشيف الماضي.
فهي بعد سقوط جدار برلين مطلع تسعينات القرن الماضي، شكّلت أكبر قوة اقتصادية عالمية، في اعتبار أن التنافس الدولي سيكون ضمن إطار الازدهار والتقدم، ولكن ما يعيشه العالم اليوم يفرض على الدول تشغيل آليتها العسكرية وبشكل سريع.
إذ قلّصت ألمانيا حجم جيشها بشكل كبير منذ انتهاء الحرب الباردة من نحو 500 ألف جندي عام 1990 إلى 200 ألف. لكن اليوم تنشط فيها حركة التسلح، بعدما أبرمت حكومة المستشار أولاف شولتس في أيار 2022، تخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني في وجه التحديات.
تشهد منطقة الشرق الأوسط ازدحام دول وحضارات وممرات، على رأسها طريق البهار الهندي الذي وقعت على تنفيذه نيودلهي في أيلول الماضي مع المملكة العربية، لمواجهة طريق الحرير الصينية التي تعبّدها بكين لإعادة إحيائها، فصراعات الممرات التجارية القديمة عبر البحر الأحمر يتجدد على ما يبدو.
المنطقة بعد حرب غزة لن تكون كما قبلها، والحضور الأميركي بدا في حالة من الترهل، حيث إن أميركا فقدت حلفاء لها على رأسهم المملكة العربية السعودية ومصر، وحتى ربيبتها "إسرائيل" لم تعد تشكل القوة الرادعة فيها. لهذا فإن صعود دول إقليمية على رأسها إيران، سمح للدول تسجيل حضور قوي لها على رأسها ألمانيا، ولكن السؤال، هل ستتّسع المنطقة للجميع أم ستنفطر في وجه الجميع؟