الإسلام لم يأت إلى إسبانيا مهاجراً
هنا يأتي التاريخ خير مساعد لإعادة مياه الحقائق إلى مجاريها: أولاً بالتذكير بتعدّد جذور الهوية الأوروبية: مسيحية صحيح، لكن أيضاً يهودية وأيضاً إسلامية.
"إن الإسلام لم يصل إلى إسبانيا عبر قوارب الهجرة، بل هو جزء من هذا البلد الأوروبي". بهذه الكلمات، ردّ وزير الخارجية الإسباني جوزيب بوريل على المُزايدات الأيديولوجية والكلامية التي يتنافس فيها كل من الحزب الشعبي المحافظ وحزب فوكس المتطرّف، في سباق يسعى فيه الأول إلى تبنّي خطاب متطرّف تحسباً لخسارة أصوات انتخابية لصالح الثاني.
صارت إسبانيا إذن، وببعض التأخير، طرفاً من الحملة التي تشنّها التيارات المحافظة والمتطرّفة على الهجرة في أوروبا، خاصة هجرة العرب والمسلمين، بحجّة، في زعم هذه التشكيلات السياسية، "الخطر على الهوية الوطنية".
ولمدريد مزايا على عواصم أخرى تسهل عليها الرد على مثل هذه المواقف بالدليل الدامغ: فشهادة التاريخ تتكلّم بنفسها، و هذا لا يمكن أن يفوّت سياسياً إسبانياً مخضرماً مثل وزير الخارجية الحالي. و كانت ندوة وصفت، بحق ، بـ "الثقافية السياسية" انعقدت مؤخراً بمدريد، شكّلت مناسبة ذهبية لدحض "الأطروحات المغلقة و المعادية للأجانب" مقابل "الرهان على مجتمع منفتح".
هنا يأتي التاريخ خير مساعد لإعادة مياه الحقائق إلى مجاريها: أولاً بالتذكير بتعدّد جذور الهوية الأوروبية: مسيحية صحيح، لكن أيضاً يهودية وأيضاً إسلامية.
ثانياً، يمكن التاريخ من استرجاع الحقائق بالعودة إلى الإسلام تحديداً وقد ركّز الوزير هنا على ثلاثة تجليّات أساسية للدين الإسلامي في تاريخ إسبانيا: "اللغة و الهندسة والديموغرافية". وحينما رجع إلى الأخيرة، ذكر المسؤول السياسي أن نحو ميلونين من ساكنة البلاد مسلمون.
في هذا السياق، يحمل تعبير "الإسلام لم يصل عبر قوارب الهجرة إلى أوروبا"، دلالة واضحة. أجل، فربط هجرة آنية ذات تجليات راهنة، بهجرة أخرى أصلية سبقتها وتضرب جذورها في ماض عريق - الهجرة إلى الأندلس، ربط ذكي ومنطقي في الآن نفسه.
هنا يلتقي التاريخ بالسياسة التي تحاول أن تمحوه من الذاكرة بل أن تلغيه، عندما ينجح الحزب الإسباني اليميني المتطرّف فوكس بالحصول على أكثر من 10 بالمئة من الأصوات في إقليم الأندلس، في محاولة لاستبدال رمزية موثّقة بالشاهد والدليل بأخرى مزيّفة تشوّه عمداً تاريخ وهوية وذاكرة بلد.
فالتنافس على مَن سيكون خطابه الأكثر تطرّفاً، يزاحمه التنافس على إثنتين من أكثر مقوّمات التاريخ حساسية، في إطار تنامي النزعات القومية المعادية للهجرة في أوروبا: الرمزية و الذاكرة.
أجل: يعتبر يوم الثاني من كانون الثاني/يناير من كل سنة في إسبانيا يوماً تخليدياً لاحتفالات سقوط مملكة غرناطة، وهنا يأتي التاريخ شاهداً على حدث لم تعد رمزيّته سبباً للانفعال ولا تأجيجاً للاحتقان بل حدث، مثله مثل أحداث تاريخية أخرى، يسجّل مناسبة لرصّ الصفوف اجتماعياً من أجل مزيد من التواصل والتآخى والتضامن، بقطع النظر عن التفاعل مع ما يمكن أن يحمله التاريخ من ذكرى.
لكن الرياح تعود إلى غير المجرى الذي تشتهيه السفن حين يحاول حزب فوكس أن يؤرّخ لـ "سقوط مملكة غرناطة" بمصطلحاته الخاصة، عندما يقترح لمسمّى الحدث إسماً لا يخلو من توجّه إيديولوجي: "حروب الاسترداد".
هنا يصبح التحيّز طرفاً على حساب ما كان يمكن أن يدشّن تخليداً إيجابياً : تخليد قِيَم التعايش و التسامح الذي طبع "الأندلس".
وهنا أيضاً، تسقط من الذاكرة عمداً أهم المحطات التي طبعت هوية "الأندلس" فجعلت من هذه المحافظة الإسبانية مضرب الأمثال في التلاقي الحضاري الذي ترجمه أساساً تلاقي معماري يجري على كل لسان عندما يتعلّق الأمر باستحضار واحد من أكبر علامات التلاقي الحضاري في العالم. فلا مدن غرناطة و إشبيلية وتوليدو بمعالمها و عوالمها المميّزة، ولا الحدائق الأندلسية تحتل موقعاً من الإعراب هنا. بل أكثر: يتم نزع موضوع الهوية من بُعده الثقافي تماماُ ليصبح ساحة للمُزايدة المبنية على تصوّر مُحرّف للموروث نيّته إعطاء صورة مُنافية للواقع.
كفانا أخباراً زائفة، رقمياً، تاريخياً، وفوق هذا وذاك، أخلاقياً.