وتعطّلت لغة الكلام
على الرغم من تأكيد مراكز الأبحاث الغربية بأن الانتخابات الرئاسية في سوريا ستكون غير شرعية ولن تعترف بها، بهدف إضعافها، إلا أن الشعب السوري خرج إلى صناديق الاقتراع ليبلّغ العالم رسالة، ويقول نعم لسوريا، ونعم لاستقلال قرار الشعب.
على مدى أشهر شغلت الدوائر السياسية والإعلامية، ومراكز الأبحاث الغربية نفسها بالحديث عن الانتخابات الرئاسية القادمة في سوريا وأنها غير شرعية وأنها لن تعترف بها، وأنها يجب أن تجري فقط بعد أن تتوصّل اللجنة الدستورية التي تنعقد في جنيف إلى دستور جديد، مستندين في كلّ طروحاتهم إلى هدفهم الأساسي وهو إضعاف سوريا ودبّ الفوضى بين صفوف أبنائها، وإلحاقها إن أمكن بالدول الفاشلة خدمةً لمصلحة الكيان الغاصب، واستكمالاً لما حاول الإرهابيون وشذّاذ الآفاق الذين سلّحهم ودربهم الغرب أن يفرضوه على الشعب السوري من قتل وإرهاب ودمار. ولكنّ الشعب السوري الذي خَبِرَ خُطط وآثام الأعداء على مرّ العصور، وقيادته التي وقفت من اليوم الأول في وجه كلّ هذه المخطّطات، ودماء الشهداء التي سالت سخيّةً دفاعاً عن هذه الأرض الطاهرة، وآلام الجرحى وعوائل المفقودين، وإيمان السوريين بأرضهم وهويتهم كلّها حالت دون تحقيق مخطّطات الأعداء رغم الميزات السخيّة التي رصدوها لهذا الهدف، والسيناريوهات العديدة التي ابتكروها من أكاذيب حول استخدام الأسلحة الكيميائية إلى اختراع مصطلح "حرب أهلية" لوصف جرائم أعوانهم ووكلائهم، إلى كلّ أنواع حملات التضليل لدبّ اليأس في قلب الشعب السوري وثنيه عن متابعة الدفاع عن أرضه وهويته.
نقطة الضعف لدى هؤلاء الأعداء ووكلائهم في المنطقة والعالم هي أنهم لا يتمتّعون بالعمق الحضاري والتاريخي الذي يتمتّع به السوريون وهذا لا يمكن أن يُشترى أو يُستحضر بأيّ ثمن، وهم مازالوا، وعلى مدى القرون الماضية والحالية يبيعون الأوهام عن قدرتهم على كسر إرادة الشعب السوري، وأن يجعلوا من سوريا دولة تابعة لإرادتهم مثلها مثل العديد من دول المنطقة. فمنذ بداية الحرب على سورية كان الصراع صراع إرادات بالدرجة الأولى: الإرادة الوطنية للشعب السوري التي تريد أن تحيا بعزّة وكرامة على أرضها التاريخية، والإرادة البائسة المهزومة للخونة المتساقطين التي ترى في الغرب خلاصاً وتريد أن تعيش على فُتات موائده. وهكذا بدأوا بتسخير كلّ الموارد في الإعلام والسلاح وشراء الذّمم واهمين ألّا أحد إلّا له ثمن، غير مدركين أنّ بلداً عمره عشرة آلاف عام قد صنع تاريخاً بسواعد الشرفاء الذين لا ثمن لهم والذين يبذلون الدماء رخيصةً في سبيل عزّة هذه الأرض وجمال سمائها ونقاء هوائها.
وقبل الانتخابات الرئاسية بعام على الأقلّ بدأت الدوائر المعادية بمتابعة السفن القادمة في البحر من النفط والغاز ومصادرتها، وبدأت قوى الاحتلال الأميركي بحرق محاصيل القمح السورية وسرقة النفط السوري في وضح النهار إمعاناً بزيادة معاناة السوريين وتأليبهم على قيادتهم السياسية، وتحميلها المسؤولية عن معاناتهم بحيث ينقلبوا على رئيسهم في الانتخابات المقبلة، ويحقّق الأعداء من خلال الضغط الاقتصادي ما فشلوا بتحقيقه من خلال حروبهم بالوكالة، والتي سبّبت الألم والدمار والإجرام بحقّ كلّ القطاعات بما فيها الصحّية والتعليمية والزراعية والصناعية.
وحين أتى اليوم الموعود، زحف الشعب السوري بكلّ أطيافه وفي كلّ المناطق بما فيها تلك التي تقع تحت سلطة قوات إرهابية أو انفصالية، زحف إلى صناديق الاقتراع ليقول نعم لسوريا، ونعم لاستقلال القرار السوريّ، ونعم للعزّة والكرامة السورية، وألِفُ لا للمحتلّين والغاصبين ولكلّ أدوات وأذرع التضليل التي اعتمدوها وشغلوا العالم بأكاذيبها عن سوريا، وعن الشعب السوري. المفاجأة كانت أنّ جيل الشباب الذي زادت نسبته 20% عمّا كانت عليه عام 2014، وهي نسبة ليست بقليلة من إجمالي عدد السكان، كانت له المشاركة الكبيرة والتي فاقت كلّ التوقّعات الحسابية التقليدية، سواء أكان هذا الجيل قد نشأ في المدن التي كانت تحت سلطة الدولة أو في المدن المحرّرة، وهذا يدلّ على وعي هذا الجيل وخياره، وأنّ خياره هو الوطن واستقرار هذا الوطن وعزّة هذا الوطن وكرامته، بعيداً عن الوصاية والاحتلال والاستعمار ومصادرة القرار الوطني المستقلّ.
المفاجأة الأهمّ من الانتخابات كانت في تدفّق أبناء سوريا إلى كلّ الساحات في كلّ المحافظات والبلدات والقرى عشية إعلان نتائج الانتخابات. هؤلاء خرجوا بشكل عفوي وغير مخطّط له وغير مدروس وبدون دعوات من أحد ليقولوا نحن نريد أن نعيش أحراراً على هذه الأرض، ونحن نريد أن نبنيَ بلدنا بأيدينا، ولا نريد منّة ولا منحة من أحد. هؤلاء خرجوا ليقولوا إننا نفهم كلّ مرامي محاولات التضليل، وإننا نعلم أنّهم يبيّتون لنا الشرور كي نصبح أداة طيّعة بأيديهم كما فعلوا ببلدان أخرى، ولكننا لن نسمح لهم بفعل ذلك. هؤلاء خرجوا ليقولوا إننا نفهم أنّ كلّ ما عانينا منه من اختناقات اقتصادية إنما كانت تهدف إلى أن ننحرف عن خطّنا الوطنيّ، وأن نُسلّم أمرنا لمن يستهدفنا ويدّعيَ الحرص علينا ولكننا نقول لهم لقد فشلتم فنحن نشدّ الحزام على البطون، ونزرع ونصنع ونعيد البناء ونحن مرفوعو الرأس كما كنا دائماً. فهذه سوريا أمّ الحضارات ودرّة الشرق وقلب العروبة النابض.
لقد خرج كلّ هؤلاء في كلّ ساحات القطر بمشهد لا سابقة ولا مثيل له دون وجود أيّ دعوة أو لافتة باسم حزب أو نقابة أو اتحاد أو مؤسسة أو تنظيم ليقولوا للأعداء إنّ الشعب السوري واحد في انتمائه وعمله وعيشه الواحد الذي قلّ نظيره في العالم، وأنّ ما ادّعيتموه من حرب أهلية في سوريا هو من صنع خيالكم وأحلامكم. فهذا الشعب الذي انفطر على الإيمان بالله الواحد والوطن الواحد لن تتمكّنوا مهما فعلتم من خلخلة قناعاته أو تغيير ثوابته ومبادئه التاريخية والحضارية. خرج الشعب السوري ليدحض كلّ الأكاذيب والتهم والادعاءات التي صنعها الإعلام المغرض والمضلّل عن سورية وعن قائد سورية، وليردّ أبلغ ردّ على هؤلاء بلغة جسد ولغة أرقام لا تعرف الكذب ولا تحتمل التأويل: نساء ورجال وأطفال يخطّون بأجسادهم استكمال مسيرة الشهداء العظام الذين رَوَوا تراب هذه الأرض بدمائهم، والجرحى الذين حضروا محمولين على الأكتاف ليؤكّدوا إصرارهم على المسار الذي اختاروه، وليُجدّدوا الوعد للشهداء والجرحى أنّ دماءكم الطاهرة لن تذهب سدىَ، وأنّ آلامكم في آذاننا توقظنا كلّ صباح لننهض ونضاعف العمل والبناء لنكون جديرين بتضحياتكم وثقتكم.
خرج الشعب السوري ليبلّغ العالم رسالة أبلغ من الكلام وأبلغ من كلّ لغات الأرض بأنّه شعب يستحقّ الحياة بعزّة وكرامة وأنّ الأعداء مهما بلغوا من شراسة وهمجية لن يتمكّنوا من كسر أرادته الفولاذية، وأنّ سوريا واحدة في كلّ شبر من أرضها الطاهرة، وما هؤلاء المحتلّون المتغطرسون وأتباعهم من قطيع الخنوع والتبعية سوى فاصلة لا قيمة لها في تاريخها يمحوها أبناء الشعب الواحد بانتمائهم العزيز والمخلص لهذه الأرض في كلّ شبر من جغرافيتها. خرج الشعب السوري ليقول انتهينا من سيناريوهات تضليلكم، واليوم نصمّ الآذان عمّا تقولون ونشحذ الهمم ونشدّ السواعد لمرحلة بناء وطنيّ ستذهلكم مرة أخرى وتفاجئكم بحجم طاقاتنا وقدراتنا الذاتية على الإعمار وتحقيق الازدهار مهما بذلتم من جهود شريرة لإعاقة نهضتنا الاقتصادية من جديد.