تقسيم ليبيا؟
مازلت على قناعة أن تقسيم ليبيا هو الهدف الاستراتيجي لكل الفوضى التي تحصل، لأن المُراقب لهذه الفوضى يُلاحظ أن هناك ما يشبه قانون يحكم أدوات الفوضى على الخارطة الليبية، وأهم ما فيه هو تحديد مجال الحركة بخطوطٍ حمرٍ وحتى وإن استطاع أحدهم كسرها سُرعان ما يعود إلى حيث حدّد له.
إنّ قوات الجيش الليبي بقيادة الجنرال حفتر هي الأكثر عدّة وعتاداً وتنظيماً ومهنية داخل منظومة الصراع في ليبيا، وتحظى بدعمٍ مصري ثابِت وقوّي ورضا من أكثر من جهةٍ عربيةٍ ودوليةٍ، وأيضاً لها أنصار في كامل ليبيا تشترك معهم على الأقل في نقطتين الأولى إنهاء الفوضى والثانية العداء للجماعات الإسلامية، ولكن كلما حاولت هذه القوات الخروج من المجال الجغرافي المعروف تاريخياً ببرقة ، إلا وأُعيدت إليها سواء جنوباً أو غرباً، فما الذي يمنع هذه القوات من الاندفاع في وسط ليبيا وما الذي يمنعها من التقدّم نحو سرت وما بعد سرت، ما يمنعها ليس المليشيات الليبية الأخرى بكل أنواعها، وإنما يمنعها قرار دولي هدفه تثبيت سيطرتها شرقاً فقط، وما عملية الكرّ والفرّ على الهلال النفطي بينها وبين مليشيات الإخوان إلا محاولة من مصراته عاصمة دويلة الغرب ضمان شيء من الموارد الطبيعية، لأن هذه الدويلة لا تملك ماء ولا نفطاً وليس لها إلا التجارة (سِلع وبشر ومخدّرات وأسلحة وإرهاب...)، وداعموها يريدون كسر المعادلة في علاقةٍ بالهلالِ النفطي حتى لاقتسامه على الأقل، ولكن هؤلاء الأغبياء لم يدركوا أن غزواتهم المُتكرّرة التي يُسمَح بها ويتم دعمها وتغطيتها في أغلب الأحيان ليس لها من هدفٍ سوى تثبيت خطوط التقسيم، وترك النفط محور صراع طالما لا يوجد محور آخر للصراع ديني أو مذهبي، وحتى المحور القبلي فشلوا في أن يجعلوا منه محور صراع ثابت في ليبيا، وإذن لم يبق إلا النفط.
المنطقة الجنوبية تُرِكت تتخبّط عن وعي وقصد، فحكومة طرابلس لها تمركزات جنوباً بلا فائدة وكذلك محاولة الجيش بقيادة الجنرال حفتر السيطرة جنوباً وإن حقّقت نتائج في الأول، ولكن زُخمها تراجع كثيراً وتكاد تكون فشلت برغم سيطرتها على قواعد استراتيجية للجيش، وحتى القوات التي يقودها الفريق علي كنة لا نكاد نرى لها دور، وما هو ثابت أن المنطقة تتعرّض إلى ترانسفير لتغيير ديموغرافيّتها، وبالتالي تصبح عملية عزلها عن باقي ليبيا مسألة بديهية وسهلة.
المنطقة الغربية أو منطقة "الأمازيغ" تحظى بنوعٍ من الاستقرار المقصود وبدأ فيها عمل في العُمق، وطرابلس لم تسقط بتغيير مناهج التعليم وتحظى برعايةٍ فرنسيةٍ وهو أمر مفهوم، فهي أكبر نقطة تماس مع كلٍ من تونس والجزائر، وما يجري فيها ليس بمُعزلٍ عما يُحضَّر لكاملِ منطقة المغرب العربي في هذا الصعيد.
أما طرابلس والمقصود المنطقة الممتدة من سرت حتى السواحل التونسية وتضم مدينتيّ مصراته وطرابلس، فإن المُلاحَظ أن الجميع يتواجد فيها فالجيش الذي يقوده حفتر له وجود وأنصار، ولكن لا يستطيع فعل شيء، وأيضاً يحظى أنصار الزعيم الراحل معمّر القذافي بوجودٍ كبيرٍ فيها وقاعدةٍ شعبيةٍ ربما هي الأعرض، فمدن بكاملها معهم على غرار بني وليد التي وصفها الجنرال غراتزياني بمقولته الشهيرة "مَن أراد السيطرة على طرابلس الغرب عليه بالسيطرة على اقليم بن وليد فهي دردنيل طرابلس الغرب"، وربما ما يُفسّر الرغبة الإخوانية في نوعٍ من المُصالحة مع أنصارِ النظامِ السابق، فمن يشغلهم يعرف هذه القاعدة، قاعدة أن استقرار الأمر غرباً في المنطقة الممتدة من سرت حتى حدود تونس البحرية مرتبط باحتواء بني وليد.
في هذه المنطقة تقع على أنصار النظام السابق مسؤولية نجاح أو فشل موضوع التقسيم، فإن قبلوا المُصالحة الجزئية (غرب غرب) سيكونون بذلك قد دقّوا المسمار الأخير في نعش ليبيا الموحّدة وإن تمسّكوا بالمُصالحة الوطنية الشاملة يكونون أيضاً دقّوا المسمار الأهم في نعش مشروع التقسيم، لأن وحدة ليبيا مرتبطة بكسر الحاجز الذي يُراد بناؤه حول الهلال النفطي بين شرقها وغربها.
وخلف كل بيدق في رقعةِ الشطرنج الليبية قوّة دولية تحرّكه وفق قانون الفوضى الداخلية الهادِف إلى تثبيت التقسيم، وتدويل القضية الليبية كان هدفاً صهيونياً أساساً، فالتدويل في ظل الصراع الدولي وإعادة تشكيل خرائط السيطرة والنفوذ يعني لا حل إلا بتقسيم ليبيا وفق مصالح القوى المُتصارِعة، وحدها الدول العربية وخاصة تونس ومصر والجزائر مثل الأطرش في زفّة، في أحسن الحالات تحاول خِلسة تأمين حدودها من الجماعات الإرهابية والهجرة غير الشرعية، أما بسياج مثل تونس أو بدعم بيدق من البيادق بشكلٍ ثانوي، وبالمناولة أحياناً مثل مصر أو بعمل استخباراتي منفرد مثل الجزائر.
ولكن يبقى السؤال هو أمام أجندة الخارج وهشاشة الداخل وعجز الدول العربية، ما هو دور القوى الوطنية في المغرب العربي خاصة لإنقاذ ليبيا وإنقاذ أنفسهم من المصير القاتل، والعمل على مساعدة القوى الوطنية الليبية الرافضة لسيناريو التقسيم والتي تقبع معزولة من دونِ سَنَدٍ خارجي ؟؟؟