يوسف الشاهد بين استقالتين
إذن نحن الآن أمام مسارين، مسارٌ يقوده رئيس الجمهورية سيكون له برنامج إصلاحات للإنقاذ وسيبدأ في البحث عن أداةٍ تنفيذيةٍ لبرنامجه، أي حكومة أخرى بغضّ النظر عن حجم التغيير الحكومي الذي سيحصل أكان عميقاً أم جزئياً، في المقابل يسارع رئيس الحكومة وفريقه الخُطى في وضع إصلاحاته وبرنامجه موضع التنفيذ ويحشد له في الدعم الخارجي سواء من الدول الغربية أو المؤسسات المالية العالمية.
(بقلم محسن النابتي الناطق الرسمي باسم التيار الشعبي و عضو المجلس المركزي للجبهة الشعبية)
بدأت الاستعدادات لإخراج وثيقة قرطاج 2 إلى العَلن وهي وثيقة يُقال أنها ستُحدِّد برنامج عمل الحكومة في المدة القادمة لإنقاذ البلاد من الإفلاس، وهذا الأمر في حدِ ذاته يؤكّد أمرين وهما قصور وثيقة قرطاج واحد، وفشل حكومة الوحدة الوطنية التي انبثقت عنها، وإلا ما الداعي لوثيقةٍ ثانيةٍ قيل على لسان رئيس الجمهورية أنه بعد صوغها والتوافق عليها سننظر فمَن هو قادر على تنفيذها وهو نفس الكلام الذي قيل اثناء إعداد الوثيقة الأولى.
في المقابل بدأ رئيس الحكومة حملة طويلة عريضة حول ما يُعرف بالإصلاحات الكبرى، بل وأعلن الشروع الفعلي فيها وهنا يُطرَح السؤال إذا الحكومة حدّدت الإصلاحات الكبرى وبدأت في التنفيذ فعلى مَن سيقرأ الباجي وجماعته وثيقتهم، ثم أعقبت حملة التسويق للإصلاحات بلقاءاتٍ مع عددٍ من سفراء دول الاتحاد الأوروبي، قالت إنها نالت رضاهم وعلى أثر ذلك شرعت في حملة الحديث عن الإنجازات وتحسّن الأوضاع في سباقٍ مع جماعةِ الوثيقةِ المتعثّرين في قرطاج.
إذن نحن الآن أمام مسارين، مسارٌ يقوده رئيس الجمهورية سيكون له برنامج إصلاحات للإنقاذ وسيبدأ في البحث عن أداةٍ تنفيذيةٍ لبرنامجه، أي حكومة أخرى بغضّ النظر عن حجم التغيير الحكومي الذي سيحصل أكان عميقاً أم جزئياً، في المقابل يسارع رئيس الحكومة وفريقه الخُطى في وضع إصلاحاته وبرنامجه موضع التنفيذ ويحشد له في الدعم الخارجي سواء من الدول الغربية أو المؤسسات المالية العالمية.
هناك ملاحظة لا بدّ من التوقّف عندها وهي أن رئيس الجمهورية يعمل جاهداً على إرضاء المنظمات الوطنية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة، إلى جانب حركة النهضة لضمان مرورٍ آمنٍ لوثيقته ومن ثمة المرور إلى التغيير الحكومي، في المقابل يعمل رئيس الحكومة على شقّ طريقٍ مخالفٍ وهو كسب الدعم الأوروبي واستمالة قطاعات شعبية حول موضوع الإصلاحات الكبرى وتحسّن الأوضاع، وهو ما يؤشّر إلى أن الأزمة تتعدّى كونها معالجة للأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، إلى مستقبل الحُكم خاصة وأن مؤشّرات تخلّي الاتحاد الأوروبي وفرنسا تحديداً عن الباجي لصالح خيار آخر أكثر ضمانة لمصالحهم، واستقرار الأوضاع لم يعد خافياً، هذا لا يعني أن الباجي سيخالف خيارات يوسف الشاهد كثيراً في علاقته بالشأن الاقتصادي وخاصة ما يُسمّى الآن بالالتزامات الدولية تجاه صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وما تسرّب من وثيقة قرطاج 2 غير النهائية يؤكّد ذلك حيث لم تخلُ الوثيقة من نفس العبارات التي وردت في الوثيقة 1 وفي برنامج الحكومة من قبيل ستسعى وستسرع وستضع خطة وغيرها، وحتى الإجراءات الواردة ليست أكثر من مشاريع موجودة في قانون المالية في مجملها وردت أمامها عبارات من قبيل الإسراع بتفعيل دور الهيئة العليا للاستثمار، أو الإسراع بتركيز بنك الجهات والتسريع من الانتهاء من برنامج إصلاح الصناديق الاجتماعية، وفي المجال الاجتماعي وردت إجراءات مثل التسريع في المصادقة على قانون الأمان الاجتماعي وخاصة في قسمه المتعلّق بالإحاطة الاجتماعية للعاطلين عن العمل، والسكن المخصّص لأصحاب المداخيل الضعيفة، وبرغم أن مكافحة التهريب والاقتصاد الموازي احتلّت الباب الأول لم تأتِ بجديدٍ باستثناء تغيير الأوراق النقدية الذي طالبت به الجبهة الشعبية طويلاً، ولكن وردت عبارة من قبيل أخذ الإجراءات والتدابير وهو ما يفتح الباب للالتفاف على هذا الإجراء، كما تتواصل الامتيازات الجبائية، أما في العلاقة بملف المؤسّسات والمنشآت العمومية فلم يختلف الأمر كثيراً عن برنامج الحكومة إلا من قبيل ترتيب المنشآت العمومية إلى 4 أصناف مع مُراعاة موقف الاتحاد العام التونسي للشغل في هذا الصدد، كما ظهرت الأمور مُتعثّرة في مسألة الإصلاح التربوي من خلال دعوة مجلس النواب لتوسيع الاستشارة وإن كانت الأمور واضحة في الإسراع بإصدار الأوامر التطبيقية للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي، المطلب الرئيس للاتحاد فإن تطبيق جميع الاتفاقيات بينه وبين الحكومة يواجه صعوبات كبيرة.
أما سياسياً فأهم نقطة كانت تنقيح القانون الانتخابي بما يضمن الاستقرار السياسي والفاعلية طبقاً لما ورد في الدستور ـ ولم يتحفّظ إلا الاتحاد وهي النقطة الحاسِمة في مستقبل العملية السياسية.
جماعة قرطاج أعلنوا أن نهاية الأسبوع ستُعلَن الوثيقة الثانية وسيبدأ الحديث عن الحكومة التي ستنفّذها ، ولا أعتقد أن عاقلاً يتصور أن الحكومة الحالية هي مَن ستتولّى أمر هذه الوثيقة ، وبالتالي سنكون حينها أمام الحلقات الأكثر إثارة في المسلسل الحكومي الرمضاني وهو مصير يوسف الشاهد.
وسنكون حسب رأيي أمام ثلاثة احتمالات، احتمال ضعيف وهو أحداث تغييراً في صلب حكومة الشاهد من خلال إقالة بعض الوزراء وتعويضهم بآخرين، فلا أعتقد أن كل هذا من أجل إقالة وزير أو إثنين، والمعطيات تقول إن يوسف الشاهد وحكومته غير معنيين بتنفيذ وثيقة قرطاج 2، واحتمال ثانٍ صعب التنفيذ هو إجبار يوسف الشاهد على الاستقالة مثلما حصل مع حبيب الصيد، ويوسف أعد العدّة لمواجهة هذا السيناريو الذي سيكون كارثياً على الباجي وجماعته، وربما يمر الشاهد إلى صراعٍ مفتوحٍ من خلال فتْح بعض ملفات الفساد للجميع، بما يجعل من مطلب استقالته مُحرِجاً للرئيس ومَن معه ولا أعتقد أن الباجي سيدخل من هذا الباب.
أما الاحتمال الأكثر رجاحة هو تخيير الشاهد في شخصه بين استقالتين أما الاستقالة الحكومية الطوعية أو الاستقالة السياسية الطوعية أيضاً، بمعنى أننا سنشهد بعد إعلان الوثيقة حملة عاتية وهي أن هذا البرنامج يتطلّب حكومة كفاءات غير مُتحزّبة وغير معنية بالاستحقاقات الانتخابية القادمة حتى تكون بعيدة عن التجاذبات السياسية التي يُقال الآن إنها هي من عطّلت سير دواليب الحكومات، وهنا سيكون رئيس الحكومة في الزاوية فلو رفض يكون بذلك كشف عن نواياه وعمّن يقف خلفه خاصة في موضوع خلافة الباجي، وطبعاً سيكون موقفه ضعيفاً أمام حملة إنقاذ البلاد من التجاذُب السياسي والتفرّغ للصالح العام وغيره...
وهذا السيناريو يدفع فيه الاتحاد العام التونسي للشغل وبقيّة المنظمات، ويبدو أنه أصبح الأكثر رجاحةً عند الرئيس وحزبه خاصة بعد نتائج الانتخابات البلدية حيث سيتمكّن من التفرّغ إلى إعداد نفسه ونداء تونس للانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، خاصة وأن أمامه أكثر من سنة وهي مدة كافية ليُنسي الشعب التونسي في كوارث حزبه وتحالفاته و توافقاته، ولكن هذا السيناريو يصطدم بموقف حركة النهضة التي ترى أنه لا يمكن للحكومة المقبلة تنفيذ برنامجها من دونِ حزامٍ سياسي، وترى إن حزبي النهضة والنداء وبما تعزّز لديهما بالفوز في الانتخابات البلدية يمكنهما من تشكيل هذا الحزام المدعوم من المنظمات الوطنية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل، ولكن أعتقد أن النهضة وتحت شعار التوافق يمكن أن تمرّر السيناريو بعد تسويق نفسها إعلامياً باعتبارها الطرف المتنازِل للمصلحة العامة برغم أنها صاحبة الأغلبية البرلمانية والبلدية، ويمكن استدعاء شعار خرجنا من الحكومة ولم نخرج من الحكم مجدّداً.
وبهذا سنكون أمام حكومة مهدي جمعة 2 ويكون الباجي حيَّد نهائياً يوسف الشاهد. ولكن يبقى سيناريو تصدّع آخر في النداء ودخول البلاد في صراعٍ سياسي حادٍ بين القصبة وقرطاج ، خاصة أن هذا السيناريو يساعد النهضة كثيراً لتسويق نفسها كصوتٍ للحكمةِ والضامِنِ لمصالح القوى الخارجية، وللاستقرار أمام عدم مسؤولية ما بقي من النداء ورئيسه وحكومته، وتكون قد فتحت الباب ولو جزئياً على سيناريو الشيخ الرئيس أو الأستاذ الرئيس وكل الألقاب المضافة لِلَقَب الرئيس بلا معنى في هذه الحال.