الدراما والمجتمع: سن الرُشد - الجزء التاسع
قد يخطر ببال القارىء إن النقد هو هجوم ومحاربة للعمل الفني، وهذا خطأ شائع، فالنقد أحد أركان أي عمل فني، وهو ليس قدحاً وهجاء أبداً، بل هو احتدام حوار مع ما قد تم وانتهى من الأعمال الفنية، وهو يقصد ويؤدّي بالضرورة إلى الارتقاء بالأعمال الفنية بغضّ النظر عن المشاعر الجيّاشة التي يكنّها صانع العمل لعمله.
مسلسل قلم حمرة لم يأخذ نصيبيه من العروض والنقد
لا ... ليس هناك
من تجنٍ في ما سبق وكتبت حول الدراما التلفزيونية السورية، فهذه الدراما قامت بما
عليها أن تقوم به، منسوباً الى الإمكانيات البشرية والمادية المتوفرة ولكن ما هو
متوفر أيضا إنها بلغت سن الرُشد منذ سنوات طويلة وإنها كشخصية عامة عليها أن تتقبّل
الرأي فيها، وربما تستفيد منه إذا أرادت ذلك، إذ علينا التوقّف عن معاملتها معاملة
خيرية تفضيلية تشجيعية أو ننحاز إليها انحيازاً إيجابياً يعطيها دفعات وهمية إلى
الأمام وهي لمّا تزل تراوح مكانها أو تقفز قفزات إلى الوراء، فالدراما بعد أن تبث
لا تعود شأنا يخص صنّاعها وحدهم، ومن حق أي كان أن يقاطعها أو يشاهدها ما يشاء، كما
من حق النُقّاد الذين يمتلكون معاييرهم، أن يمتدحوها أو يقرعوها حسب ما تسهل لهم
تلك المعايير ذلك .
وهنا قد يخطر
ببال القارىء إن النقد هو هجوم ومحاربة للعمل الفني، وهذا خطأ شائع، فالنقد أحد
أركان أي عمل فني، وهو ليس قدحاً وهجاء أبداً، بل هو احتدام حوار مع ما قد تم
وانتهى من الأعمال الفنية، وهو يقصد ويؤدّي بالضرورة إلى الارتقاء بالأعمال الفنية
بغضّ النظر عن المشاعر الجيّاشة التي يكنّها صانع العمل لعمله.
في هذا السياق
نقارب نقد أعمال الدراما التلفزيونية السورية وهنا لا بدّ من تسليط الضوء على أن
هذه الدراما أنجزت ومن خلال الإمكانيات المتوفرة، وعلى الرغم من الصراع الإنتاجي
بين الغث والسمين، الكثير من الأعمال الجيدة على صعيدي المحتوى والمعالجة الفنية
الإبداعية، ولولا هذه الإنتاجات (وإن قلّ عديدها في هذه الأيام) لما كان لهذه
الدراما بغثّها المُتكاثر أية مكانة تُذكر على الشاشات، وهذا بذاته ليس إنجازاً مُشرّفاً،
ولكنه يبقى إنجازاً يدافع عن العيش والحِرفة وعن استمرار الإنتاج.
هذه الحِرفة التي
بقيت مدعومة بالمعرفة والثقافة والموقف والموهبة مع بدايات الموجة الثالثة من
إنتاجات الدراما التلفزيونية، حيث قدّمت مسلسلات مهمة على الرغم من جرعتها
الثقافية "الزائدة "، فقد كان التنوير ما زال مؤثراً على رؤى صانعي هذه
الدراما، والذي اختفى تدريجاً، ليتبقّى منه القليل عند حفنة قليلة من هؤلاء
الكتّاب والمُخرجين والمُمثلين، الذين هم أنفسهم وقعوا في كمّاشة الإنتاج والتسويق،
فتارة يُقدّمون الجيّد والراقي وتارات يُقدّمون ما هو مطلوب ومناسب لهذه الحلقة
الخانقة من ممولين ومنتجين ومسوّقين، ولربما كان مسلسل (الندم ) هذا العام (2016) لحسن سامي يوسف والليث حجو مثالاً على الهوّة الفاضحة بين الغث والسمين في دراما
تلفزيونية تجاوزت سن الرُشد بكثير، وهنا لا بدّ من سؤال أنه لطالما هناك إمكانية
لصناعة مسلسل سمين، فلماذا الإصرار على إنتاج الغث ؟ لتبدو هذه الحلقة التي أتينا
على ذكرها وكأنها تتقصّد تشليح المُبدعين مشاريعهم الإبداعية (التنويرية خصوصاً)
ودفعهم في سياق هوامش فنية على سبيل الكم وملء فراغات الشاشة، وإلا كيف نُفسّر
ابتعاد هيثم حقي عن مشروعه حول عصر النهضة العربية؟ كمشروع فني إبداعي يحاول وصل
ثقافة التنوير بثقافة الحاضر الذي بدأ يتشبّث بثقافة ما قبل التنوير؟ وكيف لنا أن
ننسى عمل مثل (الزير سالم) لممدوح عدوان وحاتم علي في خِضّم أعمال لا ترقى حتى
إلأى التاريخ المدرسي المُفبرك؟، أو عمل مثل (الخشخاش أو العبابيد) لبسام الملا
مقابل "الخلطبيطة" التي سُمّيت بيئة شامية؟
كان أن بدأت
الموجة الثالثة من الإنتاجات الدرامية التلفزيونية بأعمال مثل (هجرة القلوب إلى
القلوب) و(الدغري) و(الجوارح) و(عيلة خمس نجوم) وغيرها الكثير من الأعمال
المصنوعة والمشحونة بجرعات ثقافية مُمتعة، ما شكّل أساساً يمكن الاعتماد عليه مهما
كان الكم كبيراً على ما يحتمل هذا الكم من أعمال بخسة.
وعليه ما وصلت إليه الدراما
التلفزيونية اليوم (نسبة إلى تلك الأعمال) بحاجة إلى مراجعة قاسية وغير مُتسامحة،
فالدراما التلفزيونية سلعة استراتيجية تربوية خطيرة، لا يعقل أن تكون خلف الثقافة
الاجتماعية المتداولَة، بل يجب أن تكون قائدة لها، حتى لا تتحوّل من الطلب عليها إلى
العرض لها(اقتصادياً)، وحتى لا تتحوّل أيضا من رسالة فنية إبداعية تنويرية يرسلها
السوريون كمنتج ثقافي محلي يشارك الآخرين به متعة الفن وقيَمه، إلى رسالة يتلقاها
السوريون والآخرون أيضاً رسالة معكوسة المحتوى والقصد خالية من التنوير والانفتاح فتساهم في انحطاطهم.
وهنا لا بدّ لنا
من المرور على التنافس الإبداعي الذي فقد مع توغّل الموجة الثالثة في الإنتاج
الدرامي، فهذا التنافس الإبداعي الذي كان مصدراً للإجادة، أصبح ساحة للعداء
التسويقي، خصوصاً مع الموجة الباهرة للإعلام الإعلاني حيث تم ولمرات كثيرة تضخيم
نجومي لإعمال لا ترقى إلى مستويات الجودة بأي معيار كان. وهو ما أدّى إلى تبخيس
الكثير أيضاً من التجارب الجيدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر مسلسل (غداً
نلتقي) لإياد أبو الشامات ورامي حنا و(قلم حمرة) ليم مشهدي وحاتم علي، اللذان لم
يأخذا نصيبيهما لا من العروض ولا من النقد في إزاحة واضحة عن دائرة التنافس وإذكاء
لروحية العداء التسويقي على حساب القيَم الإبداعية.
ومع هذا تبقى لهذه الدراما
التلفزيونية جذوتها المُتّقدة ويبقى لها
أيضاً أولئك المُبدعين، الذين يمكن لهم أن يعبّروا عن إمكانياتها متى أتيحت لهم
الفرصة.