أفغانستان منصة ساخنة في "الحرب الباردة"
سقطت أفغانستان، وغُزِيَ العراق، وخيط عرش "الأحادية" الأميركية بدماء المسلمين والعرب، ما مهّد لخلخلة المنطقة بأنظمتها السياسيّة وبناها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
حين انتخب جورج بوش الابن لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية في العام 2001، كانت المواجهة مع الصين الركن الأساسي لسياسته الخارجية في برنامجه الانتخابي. "غزوة" 11 أيلول/سبتمبر قلبت سلّم الأولويات، وأثارت شهية الاستعمار الكامنة لرئيس لم يتورّع عن اعتبار نفسه "مرسلاً" لتجديد "الحروب الصليبية"، بعناوين "عصرية" تقسم العالم إلى "فسطاطين" بين قوى الرأسمال "الخيرة" في الشمال و"قوى الشر" في الجنوب الفقير.
صور الهجوم على المدن الأميركية الكبرى، أمّنت شرعية "سياسية وأخلاقية" للردّ الانتقامي. صاحبت الهجوم الأميركي جهود إعلامية وإعلانية ألبست أكثر من مليار مسلم لبوس التطرّف والإرهاب عنوة، واستدعت على الفور نظرية "صدام الحضارات" البائسة.
سقطت أفغانستان، وغُزِيَ العراق، وخيط عرش "الأحادية" الأميركية بدماء المسلمين والعرب، ما مهّد لخلخلة المنطقة بأنظمتها السياسيّة وبناها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. ولغرض "نشر الديمقراطية"، تمَّت تغذية الكراهية وتسعير الأحقاد المذهبية، ووضعت مصائر الشعوب بين مطرقتين متوحّشتين؛ الأولى بقيادة جورج بوش، والأخرى مثّلها "الزرقاوي".
شكّلت أفغانستان بموقعها الجيوسياسي، وبانقسامات مكوناتها الاجتماعية، "البلد الوظيفة" الأمثل للاستغلال من الخارج. وعلى أرضها، اكتشف المستعمرون الجدد "منجم الجماعات الجهادية"؛ الخنجر الذي استهلته واشنطن بمواجهة "الاتحاد السوفياتي" بداية، وصولاً إلى الإمعان في تمزيق العالم العربي عملياً والعالم الإسلامي معنوياً.
بعد 12 عاماً على الاحتلال، بدأ باراك أوباما فترته الرئاسية الثانية تحت وعد إنهاء أطول الحروب الأميركية، لكن ظهور تنظيم "داعش" أجّل العملية آنذاك. خطة إدارة جو بايدن ليست انسحاباً عسكرياً بقدر ما هي تموضع لإدارة العمليات من الخارج وإطلاق عمليات أخرى باتجاهات عدة على مائدة التناقضات والفوضى الأفغانية. المندوب الأميركي زلماي خليل زادة يبذل جهوداً لإقامة قواعد للقوات الأميركية في آسيا الوسطى مع جيران أفغانستان تحديداً، ما يتيح تفسيرات أخرى لسياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة.
تدهور الوضع الأمني وعودة "طالبان" للسيطرة على معظم أراضي البلاد تجاوزا التوقعات الأميركية التي أوحت بأن "طالبان" تحتاج إلى أشهر قد تصل إلى عامين لتتمكّن من استعادة السيطرة، مع علمها أنَّ نفوذ "طالبان" خلال عقدي الاحتلال الأميركي يمتدّ إلى أكثر من نصف عدد المقاطعات الأفغانية، وهي تتسابق اليوم مع سحب قوات "الناتو" للسيطرة على المواقع العسكرية، ولن تنتهي بعد إتمامه في 11 أيلول/سبتمبر المقبل.
عودة أفغانستان إلى أحضان التطرّف والتقاتل الأهلي "الجاهلي"، تتجاوز بتأثيراتها البعد الداخليّ إلى إثارة مخاوف إقليمية عميقة لدول ذات أوزان ثقيلة، كالصين وروسيا والهند وإيران وباكستان، التي تتقاطع حساباتها وتتناقض في ما بينها، لكنّها تجمع على أنَّ "الفوضى المنظمة الأميركية" انطلقت للتو.
لا يمكن التقليل من هواجس أيّ من الدول المذكورة آنفاً، لكن هواجس الصين وتوجّساتها تنطلق من اعتبارات تطال عمق أمنها القومي، وهي تدرك المخاطر التي ستنشأ على طول حدودها الغربية الجبلية (210 كم)، والتي قد تحوّل أفغانستان إلى منصة ساخنة في الحرب الباردة الجديدة. استخدام "ورقة الإيغور" مع استعادة "الحزب الإسلامي التركستاني" نشاطاته العسكرية سيشكل ما يشبه الكابوس الأمني للصين، عبر ممر واخان بين البلدين، والمتصل بمقاطعة شينغيانغ الصينية ذات الأغلبية المسلمة.
ما يزيد من قلق بكين هو التوكيل الأميركي الأوروبي لتركيا لإدارة الملف الأفغاني عبر بوابة تأمين مطار كابول، لكونه الصلة الوحيدة بين أفغانستان والعالم. على الرغم من أهمية الأمر، لا تُلغى بديهيات إدراكية للسياسات الخارجية لأنقرة خلال العقد المنصرم. إنَّ رعايتها ودعمها جماعات إرهابية في سوريا وليبيا وغيرها، وتصدير المرتزقة إلى عدة نواحٍ، لا يؤهلها لإدارة "بلاد" تعاني انقسامات قبلية وطائفية وعرقية مزمنة، إضافةً إلى التّطرّف المتأصّل، إلا إذا كانت خبرتها في المجالات المذكورة سيُعاد استخدامها مرة أخرى.
انتقدت الصّين على الدوام وجود قوات "الناتو" على حدودها، لكنَّها استفادت من الحد من الاستقرار الَّذي يؤمّنه تواجد خصومها على حدودها لمنع تسرّب التطرّف إليها، ولا تغويها في المدى المنظور اندفاعات البعض لملء الفراغ الأمني بعد الخروج الأميركي. أوراق قوتها تستند إلى ثقتها بحليفيها في الإقليم، باكستان وإيران، أبرز المؤثرين والمتأثرين تقليدياً في الداخل الأفغاني.
على الأغلب، ستسعى إسلام أباد لتسريع ضم أفغانستان إلى مبادرة "الحزام والطريق" (بكلفة تفوق 62 مليار دولار). وبالتعاون مع طهران، يمكن ربط النزاعات السياسية والقبلية، أو على الأقل الحد من أضرارها. والأهم أن البلدين، مع حلفيهما الصيني والروسي، لن يسمحا للقواعد الأميركية بأن تعود إلى عموم المنطقة.
تشارك الهند حالياً في بعض مشاريع التنمية في أفغانستان، وهي على علاقة جيدة بحكومة كابول المشكوك في قدرتها على البقاء أمام حركة "طالبان" التي تعتبرها الهند معادية بالضرورة. لذلك، تريَّثت نيودلهي في الانضمام إلى الاندفاعة الأميركية المطلوبة لاحتضان "طالبان"، التي تبدو أنها تملي شروطها على واشنطن، التي تشجع الهند على التوغّل الاقتصادي والمخابراتي في آسيا الوسطى، لاحتواء الصين من جهة، وتحقيق التوازن مع باكستان من جهة أخرى.
أكثر ما تتخوَّف منه الهند هو أن يعزز الخروج الأميركي من أفغانستان طموحات سكّان إقليم كشمير بالانفصال عن الهند، فإن استطاعت "طالبان" طرد "الناتو"، فسيكون بمقدور الكشميريين طرد قوات الجيش الهندي. على الأرجح، ستواصل الهند دعمها حكومة كابول، وقد تضاعف استثماراتها في أفغانستان ومع الدول المجاورة، وفي طليعتها طاجيكستان، المناهضة بشراسة لحركة "طالبان".
بعد عقدين من الاحتلال، وأكثر من نصف مليون ضحيّة من الأفغان الأبرياء، ومصرع حوالى 2000 جندي من قوات حلف "الناتو"، معظمهم من الجنود الأميركيين، تعدّ أفغانستان من أقل البلدان نمواً في العالم وأفقرها في آسيا. وغالبية السكان قلقون بشأن الاحتياجات الأولية من مأوى ومأكل ومشرب.
وُصِفَت أفغانستان على الدوام بـ"مقبرة الإمبراطوريات"، فقد عجز الإسكندر المقدوني وجيوش المغول في التاريخ عن تطويعها، وفرّ المستعمرون الإنكليز خائبين بعد محاولات احتلالها قبل قرنين. انتكاسة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وانهياره بعدها لا يحتاج إلى إعلان. قد لا يسبب الاندحار الأميركي "انهياراً" سريعاً، لكنه سيؤمن إطلاق "الحرب الباردة" الجديدة التي تؤكّد سقوط "الأحادية" الأميركية إلى غير رجعة.