الفكر الاستراتيجيّ الروسيّ الأميركي وقمة جنيف
جذور انعدام الثقة بين البلدين ليست حديثة، بل تمتد إلى عقود عديدة، وبالتالي ليس من السهولة أن ينتهي العداء بينهما. ولكي نفهم هذه الحقائق وحقيقة العلاقة بينهما، علينا أن نفهم التاريخ والجغرافيا وعقلية قيادتهما.
عقد الكثير من متابعي قمة الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين في جنيف آمالاً كبيرة على ما يمكن أن تخرج به، للخلاص من الفوضى العارمة التي أصابت العالم نتيجة المتغيرات السياسية والاقتصادية والأمنية الكبرى التي اجتاحته مع بدايات القرن الحالي.
في الحقيقة، لفهم أيّة قمّة حدثت أو يمكن أن تحدث مستقبلاً بين زعيمي الدولتين العظميين، لا بد من فهم الفكر الاستراتيجي لكل منهما. وبالعودة إلى عقود مضت، وقبل ثورة أكتوبر البلشفية في العام 1917، لم تكن العلاقات بين البلدين يوماً على مستوى جيد إلا لفترات قليلة، ولظروف خاصة جداً، فالثقة بينهما معدومة، وبالتالي لم يتفقا يوماً، باستثناء الفترة التي تحالفا فيها مضطرين ضدّ النازية في الحرب العالمية الثانية؛ فالدولتان مختلفتان على كل شيء، من الأمن، إلى التسلح، إلى الهيمنة، وصولاً إلى اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، والتوتر بينهما على أشده، وكل منهما يعتبر الآخر مصدراً للتهديد، ما يدفعه إلى اتخاذ ما يراه من إجراءات لحماية مصالحه وأمنه القومي، فيؤثر في الطرف الآخر، ليقوم بدوره باتخاذ إجراءات مماثلة ومضادة ضدّ الطرف الآخر، فيزيد من حالة التوتر والصراع بينهما.
إنَّ جذور انعدام الثقة بين البلدين ليست حديثة، بل تمتد إلى عقود عديدة، وبالتالي ليس من السهولة أن ينتهي العداء بينهما. ولكي نفهم هذه الحقائق وحقيقة العلاقة بينهما، علينا أن نفهم التاريخ والجغرافيا وعقلية قيادتهما.
تعتبر الجغرافيا السبب الرئيسي الذي رسم استراتيجية التعامل بين الدولتين، فالمتابع لتاريخهما يجد أن الولايات المتحدة الأميركية، منذ استقلالها في العام 1776 ولغاية اليوم، في حالة حرب مستمرة مع غيرها من الدول في مختلف البقاع حول العالم، وأنها دائماً في حالة صراع، ليس من أجل الدفاع عن نفسها في وجه تحديات خارجية تهدد وجودها، وإنما للدفاع عن مصالحها في أي مكان في العالم يمكن أن تصل إليه.
ولكي تتمكّن من تثبيت وجودها كدولة عظمى، عليها أن تمنع أي دولة أخرى من امتلاك قوة عسكرية مماثلة لها، وأن تمنعها من حيازة الموارد الاقتصادية التي تتميز بها؛ فالولايات المتحدة الأميركية ترى أن أي دولة في العالم، في حال امتلكت قدرات صناعية أكثر منها أو موازية لها، ستتمكّن من اللحاق بها، وستصبح مصدراً مباشراً لتهديدها، وهو الأمر الذي لن تسمح به أبداً، وستشن الحروب لمنعها من تحقيقه.
إنَّ العلاقات المتدهورة بين الولايات المتحدة الأميركية وكلّ من الاتحاد الروسي وجمهورية الصين لا تعني بالضرورة أنها دول معادية، لكنها وفقاً للرؤية الأميركية مصدر خطر عليها، فالأميركيون يؤمنون بأن الدولة لكي تكون عظمى عليها أن تمتلك اقتصاداً قوياً، ولكي تمتلك هذا الاقتصاد، على شركاتها في الداخل والخارج أن تسيطر على عصب الاقتصاد العالمي، بحماية من الجيش الأميركي. وبالتالي، عليها أن تخلق نظاماً دولياً يتناسب مع حرية عمل هذه الشركات، وأن تمنع قيام أي دولة يمكن أن تهدد مصالحها الاقتصادية المتمثلة بعمل هذه الشركات.
وعلى العكس من ذلك، إنَّ روسيا تعتبر حروبها حروباً وجودية، لأنها تمتلك من الأراضي مساحات شاسعة لتكون أكبر دولة في العالم ضمن عدد سكان لا يتجاوز 141 مليون نسمة، وأراضيها منبسطة لا تحميها موانع طبيعية، إذ تبدأ ضيقة من بولندا، ثم تتسع لتصل إلى 2000 ميل على الحدود الروسية.
كما تحيط بها 14 دولة من جنوبها. أما في غربها، فهي مطوَّقة بحلف الأطلسي، الذي أصبح قادراً على الوصول إلى العمق الروسي، ما زاد من ضخامة الهاجس الأمني لديها، وهو هاجس أبدي لا يتقلَّص، وإنما يزداد باستمرار.
إنَّ الروس يؤمنون بأنَّهم مهددون دائماً، وإن حدث تفكّك داخليّ يوماً ما، فسيكون سببه تدخلاً خارجياً. ولذلك، نجد أن السياسة الروسية في تركيبتها تقوم في حالات كثيرة على دكتاتورية مستبدة ومهووسة بالأمن، منذ القيصر الأول إيفان الرهيب، الذي ابتدع عقيدة عسكرية تقوم على الهجوم من أجل الدفاع، ثم تبعته في ذلك القيصرة كاترين، وصولاً إلى ستالين، حتى إنَّ الرئيس بوتين اتخذ هذه العقيدة لتحقيق منطقة عازلة بين بلاده وأعدائها، فبحث عن الموانع الطبيعية ليؤمن الحماية لأمنها، فكانت دول الجوار المحاذية لروسيا، التي عزَّزها لاحقاً بوصوله إلى البحار الدافئة على البحر المتوسط، ثم وسعها بعد ذلك حتى وصل إلى البحر الأحمر، وبعدها إلى قلب أفريقيا.
يرى الاتحاد الروسي أنَّ حلف شمال الأطلسي يزداد توسعاً نحو الشمال باتجاه حدوده بهدف تطويقه وعزله، وأن الولايات المتحدة الأميركية لا تتوقف عن تطوير أسلحتها التقليدية. كما أنَّها تلاحق الأنظمة الصديقة لها، فتفتعل الأزمات فيها، وتهدد الأمن والاستقرار الدولي لتغييرها، فالرئيس بوتين لم ينسَ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، الذي اعتبره أكبر كارثة سياسية حلّت على روسيا في القرن العشرين وهدَّدت أمنها، بعد أن أفقدتها مناطقها العازلة، حتى أصبحت أقرب نقطة لتمركز الحلف الأطلسي على بعد 90 ميلاً من بطرسبرغ، بعد أن كان 800 ميل قبل انهياره، وأن التمدد والتوسع الذي يجريه الحلف الأطلسي تقف وراءه الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن انتقلت من سياسة الاحتواء إلى سياسة التفكيك. ولذلك، يرى الرئيس بوتين أنه ليس أمام روسيا إلا أن تكون دولة عظمى، فلو وضع سلاحه جانباً، كما فعل سلفه، فإن حتمية تفكيك روسيا قادمة لا محالة.
ترى الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها أنَّ الاتّحاد الروسي دائم الانشغال بتطوير ترسانته للأسلحة النووية، ويتدخل في الدول الإقليمية الواقعة على حدوده ويعتدي على سيادتها، كما أنه يدعم الدول المتمردة على الولايات المتحدة، ويقوّض النظم الليبرالية والديمقراطية، ويسعى إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي، وأن الرئيس بوتين ذاته لديه شخصية عدوانية تدفعه إلى عدم الاستقرار في العالم، وهو يملك أجندة خاصة به، فيقوم على خلق أعداء وهميين ليغطي بهم إخفاقاته الاقتصادية الداخلية، فيجعل من نفسه بطلاً قومياً.
وفي الوقت نفسه، تدّعي الولايات المتحدة أنه ليس هناك ما يدعو الرئيس بوتين إلى هذا القلق، وأن خشيته من توسع الحلف الأطلسي لا مبرر لها، فهو لا يستهدف روسيا، وإنما يستهدف الإرهاب ومناطق التوتر والنزاع في الشرق الأوسط، مثل ليبيا واليمن وسوريا والعراق، كما يستهدف حماية أمن البحار والمحيطات، بخلاف سلفه الذي كان ميالاً إلى تحقيق الاستقرار والسلم والأمن في العالم.
وإذا كان الروس غير مطمئنين إلى الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، ويعيدون بناء إمبراطوريّتهم من جديد، فالغرب أيضاً لا يمكنه أن يشعر بالاطمئنان والهدوء تجاهها، فروسيا دولة نووية كبيرة، استطاعت أن تعود من جديد إلى الساحة الدولية لتنتج الكثير من الأسلحة التقليدية المتطورة وتتمدّد وتتوسّع لتضم أقاليم جديدة إلى حدودها، حتى إنّها وصلت إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر، ودخلت إلى القارة السمراء من أوسع أبوابها، وهو ما يهدّد مصالحهم الاقتصادية والسياسية في العالم.
ومع انبثاق الصين كإمبراطورية جديدة أخرى وتعاونها مع روسيا وتنافسهما معاً لمواجهة الولايات المتحدة والغرب وتهديد مصالحهم العالمية، لم يعد للقاءات القمم أي جدوى من انعقادها، سواء تلك التي تعقدها الولايات المتحدة مع روسيا أو التي تعقدها مع الصين، مهما تعددت، وأينما كان مكان انعقادها، فالتوتر آخذ في التصاعد، والصراع يزداد حدة، ويُخشى معه أن يصل إلى حدّ الانفجار. لقد أصبح الموقف هنا: إما أن أكون وإما أن لا تكون.
بهذه الطريقة يفكر الروس، وبهذه الطريقة يفكر الأميركيون، بغض النظر عمن هو على صواب ومن هو على خطأ، فعن أي نتائج نتحدث في قمة جنيف؟ ألم تسبق انعقاد هذه القمة اجتماعات لقادة السبع في بريطانيا، ثم تبعتها اجتماعات لقادة حلف شمال الأطلسي في بلجيكا؟ ألمّ يتمّ حشد إقرار لوثيقة المفهوم الاستراتيجي الذي تناول الصين معها؟ عن أيِّ نتائج نتحدَّث وقد سبقت كلّ هذه الاجتماعات تحذيرات من الرئيس بوتين للغرب من تجاوزهم الخطوط الحمراء لأمن بلاده، متوعّداً برد أقوى لا يتناسب مع أفعال حلفاء الناتو، في الوقت الذي وصف بايدن غريمه بوتين بالزعيم القاتل؟
لقد عقدت القمة، ووصلت محتويات رسالة الرئيس بايدن في إظهار قدرته على الدفاع عن موقع بلاده ومكانتها، كما وصلت رسالة الرئيس بوتين في إظهار مكانة بلاده في العالم ومواهبه الفذّة، واستطاعا معاً أن يثبتا أنهما الأقوى في العالم.
لكن ماذا بشأن التصريحات الرسمية التي سبقت انعقاد القمة أو تلتها، باستثناء اتفاقهما على عودة السفيرين، والتهديد المتبادل بالرد بشأن الأمن السيبراني والقرصنة الإلكترونية، والمسؤولية الخاصة إزاء الاستقرار الاستراتيجي في العالم؟ ما عدا ذلك، جاءت التصريحات المتعلقة بالقضايا الأخرى لتحمل عبارة الوعد بالمستقبل، إذ تم استخدام كلمات لا تدلّ على أي اتفاق وصلا إليه، ومن ذلك: "فهما سيبدآن بمحادثات حول تغيرات محتملة للحد من الأسلحة النووية (ستارت 3). وقد يكون هناك مجال للتوصل إلى تسوية بشأن تبادل السجناء. العلاقة بين البلدين يجب أن تكون مستقرة. سنثير قضايا مرتبطة بحقوق الإنسان. لا أعتقد أن بوتين يريد حرباً باردة...".
لم تخرج هذه القمّة بأي اتفاق للسيطرة على الانفلات الحاصل في كثير من مناطق النزاع في العالم، وعودة السّلام والأمن الدّوليين، وتحقيق الاستقرار فيه، بل تركت هذه الأمور لتقررها التطورات المقبلة وما تحمله من متغيرات مستجدة، فالحادث الخطير الذي جرى في البحر الأسود بدخول المدمرة البريطانية المياه الإقليمية للاتحاد الروسي هو رسالة استفزازية من الأطلسي، وبعنوان واضح: نحن هنا وعلى حدودكم!