كانت ليبيا دولة ذات سيادة.. فهل ستعود؟
أعتقد أنَّ فرضية صنع القرار الوطني السيادي وإعادة الإعمار أمران مهمان، ولكن ماذا أعددنا لهما، كجانب ليبي، من أوراق وتقارير وملفات عن آخر تطورات .
المحاصصة هي نظام مقيت لم يطبق تاريخياً إلا في المجتمعات المتخلفة المتنازعة المتحاربة، باعتبارها حلاً مؤقتاً لخروجها من أزمة عرقية أو مذهبية أو قبلية أو حرب أهلية، ولكنها تذهب بها إلى أتون التقسيم الفعلي، وخير مثال على ذلك السودان وانقسامه، وفلسطين التي ذابت قضيتها بين سجال الضفة الغربية وقطاع غزة.
هناك من يتساءل: كيف تكون المحاصصة أمراً معيباً مسيئاً في الوقت الذي تُطبّق في أميركا؟
أقول له إنَّ المحاصصة التي يدَّعي أنَّها تُطبق في أميركا أمر مختلف تماماً في جوهره وهدفه عما تجرنا إليه في مجتمعاتنا المتنازعة المتناحرة، ولا أعتقد أن المحاصصة التي تُطبق فيها يرفضها إنسان واقعيّ، وهي ترتكز على:
● توزيع المقاعد البرلمانية وفقاً لنسب عدد السكّان، على أن يتم كلّ بضع سنوات إجراء تعداد سكاني. وفي ضوئه، تتم إعادة النظر في توزيع المقاعد البرلمانية.
● توزيع قيمة المساعدات الاتحادية أو الفيدرالية على كلّ ولاية وفقاً لعدد السكّان، لا وفقاً لكمية الثروات الموجودة في هذا الإقليم أو ذاك.
من هذا المنطلق، نفهم أنَّ العملية برمّتها، وببساطة، هي عملية تنظيمية صرفة لا علاقة لها مطلقاً بالمحاصصة الجهوية السياسية التي بدأنا نمارسها. في أميركا، لا يوجد شرط محدد يفرض أن يكون وزير الخارجية من ولاية معيّنة أو مذهب معيّن أو عرق معيّن أو قبيلة معيّنة.
إنَّ الرئيس الأميركي جو بايدن كاثوليكي المذهب. وقبله بعقود، كان الرئيس جون كيندي يحكم بلداً غالبيته من البروتستانت المسيحيين، والأمر عادي جداً لدى الأميركيين، ولم يشنّ عليه أحد هجوماً يعيبه ككاثوليكي، لكنه سيواجه حتماً بمنتهى الشدة والنقد إذا فشلت سياساته في تحقيق التطور الاقتصادي المطلوب، وما لم يحسن من أحوال الناس المعيشية، بخلاف ما يحاولون فرضه على مجتمعاتنا العربية، فأميركا التي ترفض المحاصصة في نظامها السياسي الداخلي وآليات الحكم، باعتبارها من رواسب تخلف ما قبل الحداثة، هي أميركا ذاتها التي تحرص على تطبيقها في سياستها الخارجية والتاريخ المعاصر، ويؤكّد ذلك عملياً الدور الإجرامي والكريه لبول بريمر، الحاكم العسكري الأميركي للعراق، إثر إسقاط نظام صدام حسين في العام 2003، في غرس المحاصصة المذهبية والعرقية وتطبيقه في البلاد، بتقسيمها إلى 3 فئات مذهبية وعرقية، الشيعة والسنة والكرد، وما يزال العراق الشقيق يعاني مصائبها وتداعياتها الخطيرة على تماسك نسيجه الاجتماعي حتى يومنا هذا.
كما أنَّ من يحاول غرس المحاصصة في ليبيا وتطبيقها، وفقاً لاتفاق ملتقى حوار جنيف الذي أفرز السلطة الجديدة على هذا النحو من التقسيم الإقليمي الثلاثي الأضلاع، هي المبعوثة الأممية الأميركية ستيفاني وليامز، مع علمنا بالآثار السلبية المدمرة التي ستترتب على تطبيق نظام كهذا في البنية الاجتماعية والسياسية الليبية على المدى الطويل، وخير مثال ما حلَّ بإخواننا العراقيين الَّذين أصبحوا صيداً سهلاً للتفتت والتنازع المذهبي والعرقي الذي لم يساعدهم حتى تاريخه ولن يساعدهم في مسعاهم لإقامة دولتهم المستقرة والآمنة ذات السيادة المطلقة على أرضها وقرارها.
كما لا أنسى الوضع اللبناني المهترئ بعد مأساة العراق، وهو مثال لا تخطئه عين كلّ مراقب وطني شريف غيور، إذ لم يعد بعد عقود من تطبيقه اتفاق الطائف الطائفي إلا كمن أخذ جرعات كبيرة من دواء الكورتيزون في غير موضعه، أراحته حيناً من الدهر، لكنها كانت سبباً كارثياً في ما حلَّ به من أسقام وعلل ليس من السهل الشفاء منها.
إذاً، إنَّ المحاصصة السياسيّة ليست سوى إعداد وتجهيز لخريطة الشرق الأوسط الجديد الذي بُني على أساس تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، مع صناعة صراعات وحروب أهلية مبنية على أسس طائفية وعرقية وقبلية وجهوية.
أمام كل ما سلف ذكره، هل تعتقدون أنّ ليبيا ذاهبة إلى مرحلة صنع القرار وإعادة الإعمار؟
أعتقد أنَّ فرضية صنع القرار الوطني السيادي وإعادة الإعمار أمران مهمان، ولكن ماذا أعددنا لهما، كجانب ليبي، من أوراق وتقارير وملفات عن آخر تطورات التعاون الثنائي والمسائل العالقة وكيفية تسويتها؟ وما المسائل التي يجب على الجانب الليبي الحرص على طرحها والتمسّك بها، وخصوصاً تلك الّتي يعانيها مواطنونا مع الدول الأخرى، والّتي يجب أن تتصدّر جدول المباحثات؟
لا يعقل أن تطلب دولة ما وتسعى إلى تعزيز تعاونها الثنائي مع الدولة الليبية، فيما مواطنونا، على سبيل المثال، يعانون الأمرّين في زياراتها، أو يعاملون معاملة سيئةً في مطاراتها دون مواطني الدول الأخرى، أو دولة تحتجز مواطناً ليبياً لدوافع سياسية انتقامية ليس له شأن بها!
إنّ الجهات الليبية المعنية، وعلى رأسها وزارة الخارجية، مطالبة اليوم، وبشكل سريع وحاسم، بتحديث ملفاتها التعاونية وإعدادها إعداداً جيداً وتضمينها بالتعاون مع الوزارات والمؤسسات الأخرى، يكون أساسها ما تريده الدولة الليبية واحتياجاتها.
أمامنا نظراء يدركون جيداً ماذا يريدون ويستهدفون من زياراتهم لليبيا، والمدى الذي يريدون التوصل إليه في علاقاتهم التعاونية معنا. وهناك من يتحدث في هذا الوقت المبكر عن ملف استثماري بين ليبيا ودول أخرى، بينما ما تزال ملفاتنا غير جاهزة.
هذا الأمر لا يليق بنا، ويجب أن يتوقف تماماً. كفانا الإذلال الَّذي عشناه في السنوات العشر العجاف الأخيرة في علاقاتنا الدولية، في ظل إدارة داخلية وخارجية فاشلة، إن لم نقل الأكثر فشلاً على الإطلاق، إذ ليس لدينا رؤية أو خارطة طريق للتحرك في عالم متشابك المصالح والعلاقات حتى الآن، مع زيادة حدة نظرية تقاسم الكعكة داخلياً وخارجياً.
لذلك، على وزارة الخارجية أن تستعدّ من خلال تجهيز تقاريرها وإعداد مفاوضيها وعناصرها الكفوءة خارج نطاق اختيارات المحاصصة المقيتة للمرحلة القادمة المفصلية، والتي تبدأ بمجرد تسليم السلطة لحكومة وقيادة وطنية ليبية منتخبة من الشعب الليبي، دونما إقصاء لطرف على حساب الطرف الآخر، والتي يجب بدورها أن تعمل على تجيير كلّ الظروف الإقليمية والدولية لإعادة البناء، من دون أن تنسى أو تتغافل للحظة حقيقة أنَّ أمامنا خيارات عديدة للحراك والبحث عن شركاء في التنمية وإعادة الإعمار وكل ما هو قابل للشراء، مهما كان ثمنه، ولسنا في ذلك محصورين في جهة محددة. إنَّ المطلوب هو الإرادة الحقيقيَّة للبناء ووضع مصلحة البلاد وخيرها دائماً فوق أيّ اعتبار.
فلنتذكّر دائماً ولنضع نصب أعيننا أننا لن ننجح في فرض أجندتنا الندية ما دام قرارنا السياسي السيادي ليس في أيدينا، ونظامنا الداخلي من صنيعة معاول الهدم الخارجية.