الجزائر.. منظور الحراك "مدنية ليست عسكرية" ومخاطر تمكين الأوليغارشية
ولكي يكتمل المشهد، يجب أن تُساق الجزائر إلى مقصلة المؤسسات المالية الليبرالية. وفي هذا الصدد، يُذكر أنَّ علاقة الجزائر بهذه المؤسَّسات بدأت بخطاب النيات في آذار/مارس 1989.
"كما تُشنُّ الحرب بدماء الآخرين، تُصنع الثروات بأموال الآخرين" Andre Suares.
تعيش الجزائر على وقع حراك نشيط يدعو إلى قيام حكم "مدني ديمقراطي تداولي"، كذلك الذي عايشته في بداية التسعينيات، وكان أحد جوانبها المخفيّة والمظلمة وقوع البلاد في فخّ تفكيك نسيج الدّولة الوطنيّة الصناعيّ.
وتبعاً لذلك، فُتح المجال أمام فئة من المقربين إلى السلطة في تلك الفترة لتتقاسم تركتها، وتجمع ثروات طائلة تنامت وفق متتالية هندسية مع فترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وتطمح إلى أداء دور مؤثر في صنع القرار.
مثل هذه الحالة ترد بشأنها أسئلة عديدة من قبيل: هل يدرك الحراك الأبعاد الخفية لشعار "مدنية ماشي (ليست) عسكرية"؟ وهل يمتلك ضمانات تسمح له بتوظيف مخرجات الحراك، إن حصلت، لمصلحة هذه الفئة؟ وهل يعيد أخطاء نخب التسعينيات في توفير ظروف نشأة هذه الأوليغارشية، وتبعاً لذلك يُمكّنها من الحكم؟ ولماذا يختفي شعار محاسبة هؤلاء، وفق مبدأ "من أين لك هذا؟"، من خطابات الحراك وشعاراته؟ أسئلة أحاول الإجابة عنها في هذا المقال الذي أسعى في البداية عبره إلى أن أفهم سياقات إصلاحات العام 1989.
إصلاحات شباط/فبراير 1989 السياسية وبداية التأسيس لتشكّل الأوليغارشية المالية
أقدر أنَّ إصلاحات شباط/فبراير 1989 جاءت في إطار تهيئة شروط (الشروط الاقتصادية) انخراط الجزائر في المنظومة الليبرالية. وكان التركيز على الجانب السياسي وجعله يهيمن على التوجه العام يهدف إلى ممارسة نوع من التعمية والتغطية على الشروع في ما يسمى إصلاحات اقتصادية قاسية مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما حصل بالفعل، إذ تم بعث مسار سياسي مأزوم، توفّرت فيه كلّ أسباب الصدام والانهيار. وقد حصل ما كان منتظراً، فتمّ إيقاف المسار الانتخابي وإدخال الجزائر في نفق مظلم من النزاع والاقتتال، وهي الظروف المثاليّة التي يحبّذها عرابو الليبراليّة: "حين تسيل الدماء في الشوارع، اجمعوا الثروات."
ولكي يكتمل المشهد، يجب أن تُساق الجزائر إلى مقصلة المؤسسات المالية الليبرالية. وفي هذا الصدد، يُذكر أنَّ علاقة الجزائر بهذه المؤسَّسات بدأت بخطاب النيات في آذار/مارس 1989، والذي تعهدت فيه البلاد بالانخراط في اقتصاد السوق وتنفيذ برنامج التكييف والاستقرار الهيكلي. وأبرم أيضاً اتفاق اتَّسم بالسرية في حزيران/يونيو 1991، فضلاً عن اتفاقيات أخرى في العامين 1994 و1995.
وقد كتب رئيس الحكومة السابق بلعيد عبد السلام (1992 - 1993) عن ذلك في مذكّراته التي حملت عنوان "كل الحقيقة حول 13 شهراً"، أنَّ مجلس الدولة الأعلى - السلطة المؤقتة في البلاد عقب استقالة الرئيس بن جديد - أبدى موافقته على مقاربته القائمة على "اقتصاد الحرب"، والتي تتلخَّص بالتقشف في استعمال موارد الدولة المالية وربط مسألة "مكافحة الإرهاب" بمحاربة الفوارق الاجتماعية والسيطرة على الليبرالية، غير أنَّ ذلك لم يحصل، يقول رئيس الحكومة بلعيد، فالحرص على إعادة جدولة الديون كان يهدف إلى فتح السوق الجزائرية أمام مجموعات الاستيراد التي ظهرت فجأة وبدأت تضغط في الاتجاه الذي يضعف الدولة الجزائرية.
وفي هذا الصّدد، يتَّهم بلعيد الجنرال تواتي، المدعو "المخ"، بالتدخّل لديه شخصياً، ويقول: "رغم ظروف الأزمة الاقتصادية التي كانت البلاد تمر بها، فقد تدخَّل للموافقة على قرض بمبلغ 280 مليون دولار لفائدة رجل الأعمال يسعد ربراب من خزينة شبه فارغة، وهو القرض الذي جمدته. وقد أنهيت مهام حكومتي نتيجة ضغوط بعض كبار المتعاملين الاقتصاديين الخواص الذين منحهم صندوق النقد الحق في الاستفادة من قروض خارجية حصلت عليها الدولة أو كانت مضمونة من طرفها، لتموين هذه المواد التي كانوا يستوردونها". تجدر الإشارة إلى أن يسعد ربراب، مالك مجموعة "سيفتال" (Cevital)، يحتكر سوق السكر والزيت، فهل ينتبه الحراك إلى مرامي شعاراته؟
الحراك من "جيش شعب خاوة خاوة" إلى "مدنية ليست عسكرية"
عقب إعلان الرئيس بوتفليقة الترشّح لعهد خامس منذ أن تولى الحكم في العام 1999، شهدت مختلف أنحاء الجزائر تظاهرات حاشدة، رافعة شعارات شهيرة، مثل "يتنحاو قع" و"جيش شعب خاوة خاوة".
وأرغمت هذه التظاهرات بوتفليقة، في ظلّ دعم الجيش لها، على سحب ترشحه، ثم قدم الاستقالة في نيسان/أبريل 2019، مع تقديم عدد من أفراد منظومة حكمه إلى المحاكم بتهم فساد (أكثرهم رجال أعمال)، وزجهم في السجون.
أما الطبعة الثانية من الحراك، فقد أتت بعد "عطلة" فرضها وباء "كوفيد 19"، مع إحياء الذكرى الأولى للحراك التي تصادف 22 شباط/فبراير. وقد شهدت تظاهرات مطالبة بالتغيير الجذري للنظام، رافعة شعار "مدنية ماشي عسكرية".
يعتبر هذا الشعار صفري المحصلة بلغة النزاع، إذ لا يقبل أنصاف أو أجزاء الحلول، وينظر إليه باعتباره مستوحى من قرارات مؤتمر الصومام في آب/أغسطس 1956 المطالبة بـ"أولوية السياسي على العسكري"، وهناك من ينظر إليه باعتباره انقلاباً على جوهر الحراك القائم على التوافق والتعاون بين الجيش والشعب. وعند البعض ما هو سوى مؤامرة خارجية، في حين أنني أراه وسيلة ضغط تحاول واحدة من العصابات الضغط به على السلطة الحاكمة، بغية الحصول على بعض التنازلات.
طبعاً، هذا الضغط يُغذيه عدم رضا الجماهير المنتفضة عما أُنجز منذ انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون منذ كانون الأول/ديسمبر 2019، فهل تخفي مثل هذه الشعارات سعي الأثرياء الجدد لتفكيك النسيج الصناعي للدولة بممارسة تأثير مباشر في الحكم؟
هل يشرعن الحراك لحكم الأوليغارشية المالية المناهضة للدولة؟
أقدّر أنّ إدراكات وتصورات البرجوازية الجديدة (الأوليغارشية المالية) في الجزائر حيال الدولة تختلف عن مثيلاتها (قياساً وليس مقارنة) البرجوازية في أوروبا، على اعتبار أنَّ الأخيرة ساهمت في بعث الدولة القومية وترسيخها، كما هي سائدة اليوم، في مواجهة السلطة المقدسة للكنيسة المتحالفة مع الإقطاع، وهي في كل ذلك تنطلق من مسلَّمة مفادها أن حماية وتنمية ثرواتها يتوقف على مدى حماية وتقوية سلطة الدولة ومكانتها.
كما تعمل البرجوازية الرأسمالية اليوم في أميركا أو فرنسا أو تركيا خلافاً لحالة أصحاب الثروة الجدد في الجزائر، فكون ثروتهم جُمعت بسبب تفكيك نسيج الدولة الصناعي وتحطيمه، وإدراكهم إمكانية حصول تغيرات قد تعيد طرح إمكانية مساءلتهم ومحاكمتهم عن مصدر ثرواتهم من خلال شعار "من أين لك هذا؟"، أو يبرز نظام ينتصر للتأميم على الطريقة الشيوعية، كما حصل في سبعينيات القرن الماضي مع الرئيس بومدين. أقدر أنَّ مثل هذه العوامل ستعمل لدى هؤلاء، وبقوة، في اتجاه سعيهم لإضعاف سلطة الدولة. والأمثلة كثيرة جداً، من تهريب الأموال إلى الخارج، وشراء العقارات في الخارج، إلى استيراد خردة العالم من الصين، وحتى استيراد النفايات وكل المنتجات المهددة لصحة الإنسان والبيئة أو مساندتهم لحكم الفساد، العهدة الخامسة، على غرار رجلي الأعمال حداد وكونيناف.
في الخلاصة، وإذا أخطأ "إسلاميو الفيس" والنخبة السياسة عموماً في إدراك مخاطر الانخراط في إصلاحات ليبرالية كان الهدف منها تفكيك نسيج الدولة الوطنية الصناعي، وعبره توفير ظروف بروز فئة المستفيدين من تركتها، وهم الأوليغارشية المالية، فعلى الحراك أن لا يخطئ مرة أخرى في تشخيص المشكلة، وهو يرفع شعار "مدنية ماشي عسكرية"، لأنه بذلك سيمكّن الأوليغارشية من التأثير والحكم مباشرة.
بدلاً من ذلك، عليه أن يرفع شعار "من أين لك هذا؟" لكلّ هؤلاء ويعمل من أجله، وفي الوقت نفسه، أن يطالب بتوفير ظروف ابتدائية عادلة تكون فيها الفرص متكافئة (الاقتصادية أساساً) بين الجميع في إطار دولة القانون والشفافية، والتي ستساهم حتماً مع عوامل أخرى في الوصول إلى الحكم المدني المنشود.