الحكومة الليبية وتحدّيات المسار
في حقيقة الأمر، ربما كان للرئيس المرشّح أسبابه ودوافعه في الاندفاع إلى طمأنة هذه الجهة أو تلك، تماشياً مع هاجسه في تمرير حكومته.
يواجه رئيس الحكومة الليبي المرشّح حالياً، كما يبدو، تحديات عدة يثيرها البعض، وتستهدف في بعضها الانتقاص من دوره والتشكيك في اختياره. والهدف الواضح في بعضها هو العمل على الوصول إلى تسوية معه تقضي بقبوله ترشيحات معيّنة لمناصب وزارية محددة أو مناصب قيادية من الدرجة الثانية أو تقديم وعود بإيفاد سفراء جدد ممن لم يسعفهم الحظّ أو قوة الواسطة لتولي وزارة ما أو لتحقيق مطالب فئوية مستقبلية معيّنة!
وفي سياق كلّ هذا، تتعدّد أوجه المواجهة وأساليبها، وإن اتّخذت ظاهرياً عوامل ومنافذ عدة، لعلّ من أهمها وفق المعلن الآتي:
الدّفع بمسألة الرّشاوى لتولّي المنصب
يبدو واضحاً أنَّ الهدف من إثارة بعض الجهات هذا الموضوع ليس بريئاً، بغض النظر عن صحة تلك الاتهامات من عدمها، فذلك الأمر أصبح، كما يعلم الجميع، في أيدي المنظّمة الدولية وتحقيقاتها، وهو ليس مما قد يصنّفه البعض في إطار نقاوة العرض وشفافيته، وليس بدافع وطني من بعض الدافعين به، وإن دخل صراحة في إطار سياسة ممنهجة لممارسة ضغوط على رئيس الحكومة المرشّح لتحقيق أهداف وغايات ومآرب أخرى.
قد يكون ذلك بفعل بعض الموتورين الذين خابت آمالهم في الحصول على وزارات ما، أو لم يكن ممكنناً تحقيق غايتهم، أو سعياً منهم للإطاحة به، للدخول مجدداً في نفق الحوارات الهادفة إلى إخراج مرشح جديد لرئاسة الحكومة.
تعقيدات المحاصصة
تسعى العديد من الجهات جاهدة إلى أن تظفر بمنصب ما، رغم قلة تلك المناصب ومحدوديتها، ناهيك بالفترة الزمنية المحددة بها. وكما يبدو، إنَّ هذا الداء المستشري في الجسم السياسي الليبي كان سبباً في ما برز من تكهنات حول زيادة عدد الحقائب الوزارية أكثر مما يجب، والتي لا يمكن تصنيفها في إطارها إلا بوزارة المحاصصات وتقسيم الغنائم البعيدة كل البعد عن الهدف الأسمى الذي ستشكل الحكومة من أجله، وهي بذلك لن تضيف سوى عبء وثقل كبيرين وتقييد لحركتها وحركة رئيسها، وما قد يترتب على ذلك من تعقيدات وصراعات واختلافات قد تحجّم حراكها تجاه الاستحقاقات الانتخابية المطلوبة منها، والتي اختيرت لأجلها.
التّهديد المتكرّر بعدم منح الثقة
تدفع تلك التصريحات والتهديدات إلى عدم منح الثقة، ولو مؤقتاً، بذريعة أنَّ أموراً بدأت تظهر، ليس أقلها إشارة البعض إلى أهمية الانتظار إلى ما بعد 15 آذار/مارس الجاري، أي بعد ظهور نتيجة التحقيقات الدولية بشأن تهمة الرشاوى ومدى صحتها وجديتها، وبالطبع تبعاتها، إن تأكّدت، على وضع رئيس الحكومة المرشح ومصداقيته واستمراريته، وهي أمور تصب في مجملها، كما أسلفت، في إنهاك رئيس الحكومة، حتى قبل أن يمنح ورقة الاعتماد، وقد تدفع به تحت هذه الضغوط في مرحلة ما إلى تقديم تنازلات محددة، حتى يتم تمرير موضوع الاعتماد بسلام.
رغم ذلك، تبقى هذه التهمة، حتى على افتراض براءة ساحته منها، لصيقة به، وستثار ضده من حين إلى آخر، وسيكون لها أثر، كبر أم صغر، في إضعاف حراكه مستقبلاً بعد اعتماد الحكومة، وستكون عاملاً للتهديد والانتقاص من شرعيته وشرعية حكومته. ولا شكّ في أن الوضع سيكون أسوأ سياسياً وأخلاقياً في حال ثبتت هذه التهمة عليه، حتى لو تسرع من جهته ونال الثقة واستبق الأمر قبل صدور التقرير الدولي!
ومما لا شكّ فيه أنَّ إعلان المجلس الرئاسي الحالي الصادر يوم الأربعاء 3 آذار/مارس 2021، الذي طالب بموجبه من الوزراء والمؤسسات التابعة له بعدم التعامل مع المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة المنبثقة عن حوار جنيف إلا بعد حصولها على الشرعية، وإن بدا أمراً طبيعياً، في حال كان المجلس نفسه يحمل الاعتماد نفسه الذي يطالب به، سيطرح أسئلة عدة حول طبيعة المسار الذي ستسير فيه البلاد، وحول التطورات القادمة التي ستحدد مصير هذا الجسم الجديد، وخصوصاً في ضوء ما سيسفر من نتائج عن التحقيقات في شبهة الرشاوى. ويعتريني إحساس هنا بأنَّ الأمر لا يبعث في مجمله على الاطمئنان إلى الوضع الداخلي للبلاد!
التّوازنات الدوليّة والقوى الجاثمة على الأرض الليبيّة
وقد لاحظنا ذلك الحراك المتعدّد الاتجاهات والتوجّهات لرئيس الحكومة المرشّح، استرضاءً لجهة أجنبية أو أكثر لها تأثير فاعل أو وجود عسكريّ قائم. وفي هذا، لمسنا تحركاً باتجاه تركيا ومصر، وهما على طرفي النقيض في المسألة الليبيّة، وسمعنا تصريحات صحافية مواكبة لطمأنة هذا البلد أو ذاك.
وكنا نرى أنَّ من الأسلم لو آثر رئيس الحكومة الصمت الإعلامي عقب زيارات أو اتصالات كهذه أو أجّلها إلى ما بعد منح الثقة، تفادياً لما قد يحدث من إساءة فهم لصحيح موقفه أو اتهامه بالانحياز إلى فريق دون الآخر أو قد تكون سبباً في إضعاف موقفه وإتاحة الفرصة لتصنيفه سياسياً باتجاه ما، في الوقت الذي لم يستلم بعد، وهو في غنى عن كلّ هذا لو كان معه مستشارون لهم باع واسع من الحنكة والدراية السياسية وحسن التخطيط، غير أنه أدخل نفسه، وفي وقت مبكر، في نفق العلاقات الدولية، وبعضها له وجود عسكري واتفاقيات مثيرة للجدل ومصالحه متضاربة متصارعة، ولن تكفي وعوده المباشرة بالانفتاح الاقتصادي والمشاركة في المشاريع الضّخمة لإعادة إعمار البلاد لمحو بعض الشكوك القائمة، وفي ظل مساعٍ جارية لدول أخرى معنيّة مباشرة بالشأن الليبي، ولم يتم الاتصال بها، ولها أجنداتها ومصالحها ومخططاتها للاستحواذ على جزء من الغنيمة الليبيّة في مرحلتها القادمة لما بعد اعتماد الحكومة!
وفي حقيقة الأمر، ربما كان للرئيس المرشّح أسبابه ودوافعه في الاندفاع إلى طمأنة هذه الجهة أو تلك، تماشياً مع هاجسه في تمرير حكومته، ولكنّه ليس مضطراً إلى أن يواكب ذلك بتصريحات صحافيّة ألزم نفسه وحكومته فيها ببعض التعهّدات، وفتحت باباً لبعض المتربّصين به.
التزامات ووعود داخليّة معلنة
قد يصعب تحقيق بعض هذه الالتزامات في فترة زمنية ضيّقة، لحكومة مهمّتها محددة بزمن وأجندة معينة مسبقاً، وعلى رأس أجندتها بند أساسي محوري شُكّلت من أجله، ويتطلّب رصّ الصفوف والتكتل لتحقيقه، بعمل وجهد مشترك جماعي في ظل استقرار قائم، وبعيداً عن أي قضايا أو مسائل خلافية قد تشتّت جهود الحكومة والشعب عن تحقيق هذا الهدف القومي المنشود، وهو الاستحقاق الانتخابي.
ويبدو أنَّ هاجس تمرير حكومته الّتي تقف وراء حراكه الخارجي هو ذاته الذي يقف وراء ذلك، وهو أمر طبيعي ومقبول وراء التزاماته المعلنة لطمأنة المواطنين ومساعدتهم على تخطي صعوبات الحياة والغلاء، ومواجهة جائحة كورونا وتوفير اللقاح بأسرع ما يمكن لوقف فتكها بالناس.
بالتأكيد، ليس مطلوباً من حكومة انتقاليّة محددة بأشهر معدودات أن تقيم مشاريع استراتيجية أو تغيّر بشكل هيكليّ من اقتصاد البلد الرّيعي، ولو تعهّد رئيس الحكومة بذلك، وهو للإنصاف لم يفعل، لكن عليه الالتزام بما تعهَّد به، وليس بمقدوره التنصل منه في ظلّ وجود خصوم متربّصين للنيل منه ومن حكومته، وفي ظل مجلس رئاسي قائم شريك رئيسي له في السلطة.
وفي خضم هذه التفاعلات، تبقى عدة أسئلة بحاجة إلى إجابة ما، لعلّ أهمها:
كيف يمكن لرئيس الحكومة أن يفي بكلّ هذه التعهدات الداخلية والتعامل مع ملف المصالح الأجنبية المعقدة والمتضاربة، في ظل حكومة مؤلفة بموجب معيار المحاصصة السياسية، وقد تفتقد إلى عناصر الخبرة والتكنوقراط، وخصوصاً في ملف التعامل الدولي؟! وما هي الأولويات التي ستبدأ الحكومة بالتعامل معها بعد اعتمادها في ظل أجندتها المتعددة؟ وهل ستتفرغ للشأن الداخلي؟ وهل يمكن أن يتم ذلك بمعزل عن وجود القوات الأجنبية والمرتزقة في البلاد أو أنَّ الأمر يتطلب تسوية هذه المسألة وإنهاء هذا الوجود قبل أي شيء آخر وضمن أيّ آلية؟!
في الواقع، لا أريد أن أطرح في هذه المرحلة العديد من الأسئلة، وما أكثرها! ولكنَّني أعلم يقيناً أن الحكومة تنتظرها، بعد اعتمادها، مهام شاقة جداً تستوجب تضامن الجميع وإجراء عصف ذهني لكيفية الخروج من هذا الجبّ العميق الذي وقعت فيه الدولة الليبية منذ سنين!