السلطة الانتقالية في ليبيا وتحديات ما قبل الاعتماد وبعده!
إنّ قضية استتباب الأمن هي مسألة محورية ومركزية وقاعدة أساسية ضرورية للبناء عليها في أي خطوة قادمة ستنتهجها الحكومة الموحدة .
إنَّ المهام التي يطلبها الشعب الليبي من حكومته بإيجاز، وآمل ألا أكون مقصراً أو مبالغاً في ما سيرد ذكره الآن، يمكن حصرها مبدئياً في الآتي:
أولاً: التماسك ووحدة العمل بين جهازي السلطة
أولى المهام وخطوات النجاح التي يجب أن تكون واضحة أمام السلطة الانتقالية، أنها تتولى الحكم في فترة من أخطر المراحل التي تمر بها البلاد. ولهذا، يتوقف نجاحها أو فشلها على تداعيات حاسمة من حيث تماسك البلاد أو تفكّكها، وخصوصاً أنها تأتي بعد حوارات وسجالات كانت أقرب في معظمها إلى الفشل واليأس منها إلى النجاح والأمل.
كما أنّ أمامها تحديات عديدة داخلية وخارجية بشقيها الإقليمي والدولي، لا يمكن تجاوزها إلا بإرادة صلبة مشتركة حقيقية وتنسيق تام بين جهازي السلطة الرئاسية والحكومة، فهي معركة لا يجب أن يحكمها قصر النظر أو التفرد بالقرارات، وهي معركة لوضع القواعد الأساسية لما يجب أن يكون عليه صنع القرار، ولما يجب أن نقيم عليه البناء، بعيداً من التجاذبات أو الدخول في متاهة التنازع على الاختصاصات.
إنّها حركة جماعية مشتركة ضمن اتفاقيات علمية محددة لخارطة طريق هدفها تعزيز وحدة الدولة وتماسكها وإعادتها وتأهيلها مجدداً بعد طول غياب، وتهيئتها لتنفيذ الاستحقاقات المتفق عليها من أطراف الحوار، وهي أولاً وأخيراً مطلب شعبي أساسي من دون أيّ جدال.
ثانياً: الانفتاح ومواصلة الحوار الجماعيّ
ولأن مفاتيح الأزمة الليبية تتطلّب بصراحة تامة، ومن دون أي نقاش، تكاتف الجميع واحترام كل الآراء والرؤى، وهو ما لم يكن موجوداً على مدى سنوات، وأوصلنا في غيابه وغياب أيّ تفاعل ناجح ومؤثر إلى مرحلة قربت جداً من التباعد، إن لم نقل الانقسام التام؛ مرحلة تغذيها بعض التوجهات المقيتة الجهوية وسيطرة رؤية البعض على المشهد وإصرارهم على التفرد بالحكم والاستحواذ عليه، ومن ثم التهميش وسياسة المغالبة التي وصلنا في ذروتها إلى الاحتكام للسلاح، فليس من الحكمة في شيء تكرار ما سبق من زلات، وانغلاق السلطة الانتقالية الجديدة على نفسها، واحتكارها التفكير والتنفيذ أو التفكير في الانحياز إلى جهة ما.
إنّ مهمة إعادة النهوض بالدولة والدفع بها قدماً بعد سنوات من التشتت والاحتراب والاستقواء بهذا الأجنبي أو ذاك، تتطلب تكاتفاً جماعياً ومشاركة من كل أطياف المجتمع وشرائحه المختلفة. وقد يتم ذلك في بعض أوجهه في منتدى فكري وعصف ذهني عام.
إنها مهمة ليست مستحيلة الحدوث متى توفرت النيات الحسنة، وابتعد كل الأطراف والفاعلين عن التمترس خلف الأغراض والمصالح الذاتية والجهوية والقبلية. إنها مهمة وواجب وطني يجب أن يكون متاحاً للجميع، لأن تسامينا في أفكارنا سيصب حتماً في صالح الجميع!
ثالثاً: حكومة تكنوقراط أم ماذا؟
في إطار التوجه الشعبي العام والرغبة في تفادي أي تجاذبات واختلافات في هذا المجال، فإن هناك قبولاً بحكومة توافقية فاعلة قليلة الأعضاء، وحبَّذا لو تضم بعض التكنوقراط، بحيث تكون قادرة على التصدي لبعض التشوهات في الاقتصاد والمال والسياسة الخارجية ومعالجتها كأمر جدير بالانتباه، لكن يبدو أن هذا الأمر، وخصوصاً في إطار الوزارات السيادية التي أنيط موضوع الاتفاق عليها إلى مجلس النواب مباشرة، ستأخذ وقتاً، إذا التأم شمل المجلس أصلاً واجتمع بعد طول انفصال.
وما لم يتوافق مجلس النواب، فإن الموضوع سيحال برمّته إلى ملتقى الحوار للاعتماد، ولن يستطيع أن يتكهن أحد ماهية تداعيات هذا الاعتماد، غير أنه يطرح جدياً جدوى وجود مجلس منقسم لا أثر له في الحياة السياسية والنيابية، سوى ما استنزفه ويستنزفه من أموال ومخصصات طوال هذه السنوات!
على أي حال، وكما يتراءى لي، من الصعب بمكان تجاوز مرحلة طويلة ومقيتة من عدم الثقة تعمقت في صراع الأطراف، والدفع بحكومة تكنوقراط بعيداً من معيار المحاصصة، وهو الذي اختيرت على ضوئه ومعياره، فإذا كان معيار المحاصصة أمراً لا بد منه، فلنضع الشروط المناسبة التي تتوافق مع كل منصب وزاري عند الاختيار في إطار المحاصصة ذاتها.
رابعاً: الأمن والأمان والاستقرار
هذا الأمر من صميم المهام الأساسية التي تتطلب معالجة سريعة ومتزنة وفاعلة، والتي تمكن الدولة من إحكام قبضتها على مفاصل الدولة واحتكار السلاح دون الفاعلين الآخرين، وفرض القانون وهيبته وسطوته بعد انفلات أمني جد خطير عمَّ البلاد في الداخل، بل وحتى في حدودها الدولية والجنوبية على نحو خطير وخاص.
إنّ قضية استتباب الأمن هي مسألة محورية ومركزية وقاعدة أساسية ضرورية للبناء عليها في أي خطوة قادمة ستنتهجها الحكومة الموحدة في إطار هدفها الأساسي للوصول إلى الاستحقاق الانتخابي وتنفيذه وتهيئة المواطنين للعيش حياة آمنة ومستقرة بعيدة عن أي تهديدات تمس وجودهم وحياتهم. ولن يتأتى ذلك إلا إذا دعمنا قوات الشرطة وغرسنا ثقافة السلام واحترام القانون والعدالة والمساواة عند الاحتكام إليه.
خامساً: تحسين الظروف المعيشية
لقد أصبح واضحاً لكل ذي بصر وبصيرة أن المواطن يعيش ضنكاً وفقراً وعجزاً عن توفير حاجاته الأساسية وغلاء غير مسبوق، ناهيك بالتفاوت المريع والظالم في المرتبات من جهة إلى أخرى، وكأننا في جمهوريات مختلفة، وليست جمهورية موحدة تحكمها ضوابط وتشريعات مالية محددة، والأسوأ من هذا مرتبات المعلمين الذين يعتبرون أكثر فئة مظلومة في كل المجتمعات العربية، والمتقاعدين الذين لا تفي مرتباتهم بأي أساسيات.
إنه أمر بائس وخلل إنساني فظيع واجتماعي خطير لا يتوافق مع ما تزخر به البلاد وتتمتع به من إمكانيات هائلة من الثروات، تمكّن الحكومة من إجراء إصلاح معيشي لهذه الفئات بشكل سريع وفعال.
سادساً: سياسة خارجية متزنة وواقعية
افتقدت ليبيا خلال فترة الصراع والانقسام ووجود وزارتين للخارجية، وزارة شرعية للوفاق وأخرى موازية مؤقتة، سياسة خارجية موحدة. وقد أثر ذلك سلباً في الدولة الليبية وعلاقاتها الخارجية، إذ أصبحت ليبيا، بسبب تفاقم أزمتها وصراعها الداخلي، بنداً يدرج عادة في جداول أعمال كثير من المؤتمرات وموضوعاً للنقاش. وقد واكب ذلك قيام طرفي الصراع بتكثيف حراكهما الخارجي وتسخيره بالكامل لتسويق مواقفهما واستقطاب الأنصار لرؤاهما في كيفية تسوية الأزمة.
ومن هنا، يحتاج الأمر من السلطة الانتقالية، ضمن مهامها في إعادة صياغة الحراك الخارجي، الشروع في وضع استراتيجية لسياسة خارجية فاعلة متزنة وواقعية، تبتعد عن تضخيم الذات وأداء أدوار خارجية ضررها أكثر بكثير من نفعها على البلاد؛ سياسة تستند إلى عوامل ثابتة وأخرى متحركة تأخذ ضمن محاورها الأساسية مصالح البلاد، ومتطلبات أمنها القومي في أبعاده المختلفة، وطبيعة البيئة السياسية التي ستتحرك فيها على الصعيدين الإقليمي والدولي وفي مجال التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف.
بالطبع، إنَّ من سيتصدّى لمهمة كهذه عليه أن يعيد ترتيب البيت الداخلي للخارجية أولاً، بما فيها آليات العمل الداخلي وتنظيم الملاك الوظيفي في الداخل والتراكم الوظيفي الضخم في السفارات والقنصليات، إضافةً إلى عدد من الملحقين الفنيين بصفاتهم المتعددة، مع النظر جدياً في تقليص هذا العدد الكبير من السفارات وفق معايير محددة، من دون أن ننسى إعادة هيكلة المعهد الدبلوماسي والنظر في مفردات منهجه الذي يغلب عليها الجانب النظري، والتسريع في اعتماد مشروع قانون السلك الدبلوماسي والقنصلي.
سابعاً: الاستحقاق الانتخابي
يعتبر هذا الاستحقاق المهمة الأولى والأساسية للسلطة الانتقالية، التي تعتمد في نجاحها على مدى توفيق الحكومة الجديدة بين العناصر السابقة، وعلى نجاحها في هذين الأمرين الحيويين التاليين أيضاً:
- الإسراع في عقد مؤتمر المصالحة الشاملة، وإطلاق سراح معتقلي الرأي والسياسة القابعين في السجون من فترة 10 سنوات وحتى اليوم، وعودة المهاجرين والنازحين، والتوفيق في ذلك، فلا يعقل أن تعقد الانتخابات وآلاف الليبيين خارج البلاد.
- مدى نجاح اللجنة 5+5 العسكرية في تثبيت وقف إطلاق النار وفتح الطريق الساحلي وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد، وهو أمر مطلوب تحقيقه لإجراء الانتخابات على أرضية صلبة من الوفاق المجتمعي والاستقرار.
- فتح باب المشاركة للجميع من دون استخدام سياسة العزل السياسي مع فئة أو تيار معيّن، والقبول بالنتائج كما هي.