خرافة بيع الأرض
لم يكن لأي فلسطيني الحق في بيع أرضه أو بيته، وذلك بعد صدور فتوى من قِبل المجلس الإسلامي الأعلى. وقد قضت الفتوى بتحريم بيع الأراضي لليهود.
إحدى الخرافات والشُبهات التي روجها بنو صهيون وتلقفها بعض الكارهين للشعب الفلسطيني الحُر هي خرافة بيع الأرض، إذ يستند المتخاذلون عن نُصرة فلسطين إلى مروية الكيان الصهيوني الإمبريالي الذي يقول إنَّ الفلسطيني هو الذي باع أرضه، فهل باع الفلسطيني أرضه حقاً؟ الإجابة هي: لا! الحقيقة دائماً ما تفرض نفسها، شئنا أم أبينا، والحقيقة هنا تقول إنَّ الأرض عِرض، فمن باع أرضه باع عِرضه، والفلسطيني حرُ، والحُر لا يفعل ذلك.
تفنيد الشُبهة
الدليل على ذلك ما رواه الشيخ أمين الحسيني، مفتي القدس السابق وتلميذ الشيخ رشيد رضا، وغيره من المؤرخين والكُتاب، في تفنيد تلك الشُبهة، وإليكم الحقيقة في عدة نقاط:
أولاً: تبلغ مساحة فلسطين كلها حوالى 27 مليون دونم، أي ما يُعادل 21 ألف كم مُربع ([1]). ولم تظهر بداية عمليات تسرب الأراضي لصالح العصابات الإسرائيلية بشكل جليّ وواضح إلا مع نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين في العام 1917م([2])، فقبل الانتداب - أي ما قبل العام 1917م - لم يحدث أيّ بيع أو شراء إلا بعد صدور الفرمان العثماني في العام 1849م، والذي أجاز لليهود شراء الأراضي في الديار المُقدسة، فعمل الثري اليهودي مونتيفيوري على شراء أول حي لليهود خارج سور البلدة القديمة في القدس. وقد اشتراه من الإدارة العُثمانية التي كانت بحاجة إلى توفير المال في خزينتها في العام 1869م، أي أن الطرف الذي قام ببيع ذلك الحي للثري اليهودي هو الإدارة العُثمانية وقتذاك، وليس للفلسطينيين شأن في ذلك([3]). وكان ذلك الحيّ يُعد النواة الأولى لتجمع العصابات اليهودية، وخصوصاً مع بداية الانتداب البريطاني.
ثانياً: خلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين من العام 1917م إلى العام 1948م، بدأت عملية الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، ولكن علينا أولاً معرفة الخطط التكتيكية التي اتبعتها بريطانيا بعصاباتها الصهيونية للاستيلاء على أراضي غيرها.
الخطط التكتيكية
هناك خطة سياسية كان يغلب عليها طابع الغدر والوعد والوعيد والتهديد للشعب الفلسطيني من قِبل بريطانيا. وقد بدأ ذلك بعد وعد بلفور الذي أصدره آرثر جيمس بلفور، والذي يقضي ببناء وطن لليهود في فلسطين. صدر ذلك الوعد لِلُّورد والتر دي روثشيلد([4])، فعملت بريطانيا على أخذ أراضي الفلسطينيين قسراً بفرض بعض القوانين التعسفية والضرائب على الفلسطينيين لصالح العصابات الصهيونية، حتى يتسنى لها تشريد الفلسطينيين وطردهم من منازلهم بلا مُقابل، ومَن رفض مِن الفلسطينيين ذلك كان مصيره إما الهلاك وإما إحراق داره([5]).
وهناك خطة عسكرية، من خلال قيام الإنجليز بتسليح العصابات الصهيونية التي شكَّلت نواة "الجيش" الإسرائيلي في ما بعد، مثل "البلماخ" و"الإرجون" و"الهاجاناه" و"الشتيرن". شرعت تلك العصابات بالعمليات الإرهابية منذ العام 1917م، مروراً بالعام 1926م و1936، وصولاً إلى العام 1947م([6]).
وكانت الخطتان تعملان على تهجير الفلسطينيين وتشريدهم من ديارهم، سواء بقوانين تعسفية تمنح لليهودي حق التملك وطرد الفلسطيني من داره من دون أي تعويض مادي، أو من خلال قوة السلاح والعمليات الإرهابية التي كان يُمارسها بنو صهيون لطرد الفلسطيني خارج أرضه، ولم يكن الأخير يملك أي حيلة، فقد كان أسيراً لرحى المخطط البريطاني الذي أخذ على نفسه العهود والوعود لبناء الوطن الموعود لهؤلاء العراة المُشتتين (وعد من لا يملك لمن لا يستحق!).
ثالثاً: لم يكن لأي فلسطيني الحق في بيع أرضه أو بيته، وذلك بعد صدور فتوى من قِبل المجلس الإسلامي الأعلى. وقد قضت الفتوى بتحريم بيع الأراضي لليهود، وأن من يبيعها مُرتد عن دين الإسلام ولا يُدفن في مقابر المسلمين. وقام مؤتمر كهنة الأرثوذكس العرب في فلسطين بإصدار القرار نفسه، وعمل المجلس الإسلامي الأعلى على تسليح المدنيين ضد الاحتلال ودفع أموال للفقراء الفلسطينيين حتى لا يتركوا أراضيهم، وقام بإنشاء الكتائب الجهادية الاستشهادية لمقاومة العصابات الإرهابية([7]).
نأتي هنا للحديث عن الأراضي المبيعة.. فهل للفلسطينيين يد في ذلك؟
كانت مساحة فلسطين في العام 1917م تبلغ 27 مليون دونم. استولت العصابات بين العامين 1917م و1947م على مليوني دونم، أي 7% من مجموع أراضي فلسطين. ومن هذين المليونين ما فقده الفلسطينيون قهراً، إذ سُلب من المليونين 250,000 دونم في المذابح والمجازر التي مارستها العصابات الصهيونية والهجرة القسرية التي فرضتها حكومة الانتداب عليهم([8]).. أما ما تبقى، فقد استولى عليه اليهود بالشكل الآتي:
650,000 دونم استولى اليهود عليها بموافقة الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بحجة بناء مدارس زراعية، و300,000 دونم منحتها حكومة الانتداب لليهود من دون مُقابل، من خلال تهجير الأهل من دون أي تعويض مادي، لأنها في حسبة أملاك الدولة البريطانية، و600,000 دونم اشتراها اليهود من بعض الإقطاعيين اللبنانيين والسوريين الذين كانوا يملكون أراضي في فلسطين، كعائلة آل سلام، وآل قباني، وآل يوسف، وآل تيان، والصباغ، والقوتلي، وحنا وخوري.. كان هؤلاء الإقطاعيون غير فلسطينيين، وكانوا تحت الإدارة العُثمانية التي اضطرت إلى بيع عدد من الأراضي لتوفير المال في خزينتها بسبب الأزمة المالية التي مرت بها. وقد تسبّبوا بذلك في تشريد حوالى 2746 أسرة عربية من 22 قرية فلسطينية ([9]).
يتّضح هنا أنّ سبعة أثمان ما استولى عليه اليهود قبل العام 1947م تسرّب إليهم عن طريق العثمانيين بما سُمي بالأراضي الأميرية - أي أراضي الدولة - وبعض الإقطاعيين السوريين واللبنانيين، وأغلب الأراضي كانت عن طريق الانتداب البريطاني.
أما ما تسرَّب من الفلسطينيين، فكان 250 ألف دونم، ويساوي 62 ألف فدان مصري، وهو لا يتعدى 1% من الأراضي التي تسربت لليهود، وكان ذلك تحت ظروف قهرية، من قتل وإبادة جماعية، واغتصاب للنساء، وإضرام نيران الخنادق في عوائل بأكملها، والتهجير القسري من دون أي عائد مادي ([10]).
وكانت هذه الـ7% هي نصيب الصهاينة، إلى أن تم الإعلان عن تقسيم فلسطين في العام 1947م، والذي يقضي بأن يكون لليهود 56%، وللعرب 43%، والـ1% هي القدس منطقة دولية، فصار نصيب الصهاينة من 7% إلى 56%، ثم انتهى الانتداب في العام 1948م، وأَعْلَن اليهود دولتهم المزعومة، واندلعت حرب فلسطين التي انتهت إلى أن يصل نصيب اليهود من 7% ثم 56% إلى 77,4% من مساحة فلسطين!([11]). وقد حدث كل ذلك، ولم يكن للفلسطيني يد فيه، وإنما كان المغلوب على أمره والمخدوع.
خامساً: ولو فرضنا ما روَّجه بنو صهيون عن الفلسطينيين، وتبناه - مع الأسف - بعضُ المُتشدقين المُنتسبين إلى العرب، فلماذا إذاً أشعل الشعب الفلسطيني الثورة الأولى في العام 1920م، والانتفاضات الشعبية الفلسطينية ضد الاعتداءات الصهيونية في 1929م و1936م و1947م؟ ولماذا راح هذا الكم من الضحايا الذين سقطوا بعد فتك الإنجليز بهم وارتكاب أبشع الجرائم الوحشية في الشعب الفلسطيني بين العامين 1936م و1939م؟ وكذلك لا ننسى ما حل بالشعب الفلسطيني في العام 1948م، والذي سُمي بالنكبة.
وهنا نطرح السؤال: لو كان الفلسطيني هو الذي باع أرضه، فكيف أُريقت دماؤه، وحُرقت دياره، واغتصبت نساؤه، ودُكت مساجده وصلبانه؟! ورغم ذلك، لا يزال الفلسطيني هناك مستمسكاً بما تبقى له من تلك الديار، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ومَن شُرد خارج فلسطين ما زال يحمل حول عنقه مِفتاح داره، لعلّه يعود يوماً، فكيف يكون الفلسطيني هو الذي باع أرضه؟!
في الخلاصة، حاولنا في هذا المقال عرض إحدى الشبهات الصهيونية المُثارة حول الشعب الفلسطيني الحُر. مع الأسف، إن مثل تلك الشبهات والادعاءات تجد من يتلقفها ويتداولها ويستمع إليها ويروجها أكثر مما روجها الإسرائيليون أنفسهم! والسبب بسيط، وهو أنه تقاعس وتخاذل عن نُصرة قضيته، فظن أنه بذلك يبرئ ذمته منها. وللحق أقول: إن القضية الفلسطينية والفلسطينيين ليسوا بحاجة لأمثال هؤلاء، وليسوا بحاجة لنا، ولكننا نحتاج إلى هذه القضية حتى نرتقي بها إلى الأعلى وننهض من رقدة العدمِ، ففلسطين هي التي تصنع الشُرفاء، وهي التي تصنع الإنسان، وليس العكس.
وصدق الشاعر حين قال:
سبعون عاماً وما كلّت عزائمُنا ولن تكلّ وأخزى اللهُ من كلَّ
المراجع:
الدونم: وحدة قياس تُعادل ألف متر مربع.- [1]
أمين الحسيني، حقائق عن قضية فلسطين: كذبة بيع الفلسطينيين لأرضهم، مكتبة الهيئة العربية العُليا لفلسطين، القاهرة، 1956م، ص 4.- [2]
عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة العاشرة، 1990م، ص 27.- [3]
تميم البرغوثي، الوطنية الأليفة، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الثانية، 2016م، ص 38.- [4]
أمين الحسيني، حقائق عن قضية فلسطين: كذبة بيع الفلسطينيين لأرضهم، مكتبة الهيئة العربية العُليا لفلسطين، القاهرة، 1956م، ص 3. - [5]
أكرم حجازي، الجذور الاجتماعية للنكبة، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015م، ص 82 – 83.- [8]
نبيل السهلي، فلسطين.. أرض وشعب، منشورات اتحاد الكُتاب العرب، دمشق، 2004م، ص 18.- [11]