الأزمة الإسرائيلية الكبرى

مع استمرار العجز الإسرائيلي، باتت خيارات نتنياهو محدودة للغاية. فإما الاستمرار في معارك خاسرة لا أفق لها، أو الدخول في مغامرات تصعيدية جديدة قد تكلف الكيان وجوده.

  • المقاومة لا تكتفي بالدفاع، بل تنتقل إلى الهجوم بفعالية.
    المقاومة لا تكتفي بالدفاع، بل تنتقل إلى الهجوم بفعالية.

منذ السابع من أكتوبر الماضي وحتى اليوم، يخيّم طابع الهزيمة على المشهد الإسرائيلي، إذ تظهر ملامح الانكسار واضحة، وإن عبّر عنها الاحتلال بالجرائم والقتل والاغتيالات وكثرة الدماء والنيران. بيد أن هذه الممارسات الوحشية لن تمحو كابوس الزوال الذي يهدد الكيان، فالحروب التي تخاض اليوم هي حروب وجود، ولا مجال فيها سوى للنصر أو الهزيمة.

دخل بنيامين نتنياهو الحرب بأهداف طموحة في غزة المحاصرة، تلك البقعة الصغيرة جغرافياً والمحدودة في السلاح والذخيرة. ورغم التدمير الهائل، واغتيال القادة، وحرب الإبادة المستمرة، لم يحقق أيّاً من الأهداف التي وضعها لنفسه. ولأن معركة غزة لم تُحسم ولم تضمن لـ"إسرائيل" السيطرة، لجأ نتنياهو إلى فتح جبهة لبنان هرباً من الوحل الذي غرق فيه في غزة.

أما جبهة لبنان فكانت أشدّ صرامة وإيلاماً له. فبينما يتكبد الاحتلال في غزة خسائر متواصلة، جاءت ضربات المقاومة في لبنان لتضاعف من أزمته وتعمّق جراحه. المقاومة اللبنانية لم تكتفِ بصد العدوان، بل فرضت معادلات جديدة أضافت مزيداً من الضغط على الاحتلال.

ومن أبرز هذه المعادلات، معادلة التهجير، إذ تصاعد استهداف المستوطنات الشمالية، ما أجبر نتنياهو على إخلاء المزيد منها، وصولاً إلى تهجير مستوطنات في حيفا، بل ودخول "تل أبيب" في سجل القصف اليومي، وهو ما لم تشهده "إسرائيل" منذ نشأتها. بدلاً من أن يحقق الاحتلال إنجازاً يعيد سكان الشمال إلى مستوطناتهم، تضاعفت الأعداد المهجّرة، وباتت مناطق بأكملها أشبه بالمناطق المهجورة.

وفي ضربة قاسية لنظام الردع الإسرائيلي، هاجمت المقاومة اللبنانية أهدافاً عسكرية حساسة مثل منزل نتنياهو، وزارة الدفاع، ومصانع أسلحة استراتيجية. هذا التصعيد النوعي لم يكن مصادفة، بل جاء ضمن استراتيجية مدروسة لشل القدرة العسكرية الإسرائيلية وتوجيه رسالة مفادها أن اليد العليا في الميدان لم  يد الاحتلال.

علاوة على ذلك، تتفاقم الأزمة الإسرائيلية مع دخول أبعاد إقليمية جديدة إلى الساحة. فعدا عن الحرب الدائرة في غزة، والهجمات المتبادلة مع لبنان، اشتعلت المواجهة بين إيران و"إسرائيل". هذه المواجهة، التي بدأت بضوابط محددة، باتت تهدد بالخروج عن السيطرة في أي لحظة. وفي حال تفلّت الأمور، قد تجد المنطقة نفسها على شفا حرب إقليمية واسعة، خصوصاً أن طهران و"إسرائيل" تتبادلان الرسائل النارية على أكثر من جبهة. وما زاد من تعقيد الوضع، هو أن "الوعد الصادق 3" لا يزال ينتظره الإسرائيلي والأميركي، إذ يبدو أن الطرفين يترقبان اللحظة التي قد تخرج فيها الأمور عن السيطرة. من جهته، يحاول الأميركي أن يضبط هذا التصعيد قدر الإمكان، مدركاً أن أي حرب إقليمية شاملة في هذا الوقت ستكلف الجميع أثماناً باهظة.

في هذا السياق، قُدّمت بالأمس مسودة اتفاق عبر السفيرة الأميركية إلى المفاوض المتمرس، رئيس مجلس النواب نبيه بري. هذا الاتفاق الذي جاء ببنود "ملغومة"، يهدف إلى تحقيق ما تعجز "إسرائيل" عن تحقيقه عسكرياً. لكن الرئيس بري، المُفوَّض من قيادة حزب الله، والمدعوم بتصاعد إنجازات المقاومة في الميدان، أظهر موقفاً حازماً يرفض أي تنازل يمس سيادة لبنان وحقوقه. المقاومة اللبنانية، في ظل هذا المشهد، باتت قادرة على قلب موازين اللعبة، وفرض شروطها السياسية والعسكرية بوضوح.

مع استمرار العجز الإسرائيلي، باتت خيارات نتنياهو محدودة للغاية. فإما الاستمرار في معارك خاسرة لا أفق لها، أو الدخول في مغامرات تصعيدية جديدة قد تكلف الكيان وجوده.

لجأ الاحتلال مؤخراً إلى تكثيف ضرباته الجوية على الأراضي السورية، بذريعة استهداف خطوط الإمداد والمخازن الاستراتيجية. هذا التصعيد، رغم خطورته، يعكس حالة التخبط التي يعيشها الاحتلال، إذ بات يهرب من أزمة إلى أخرى من دون أن يجد حلاً جذرياً لأي منها.

اليوم، ومع صلابة حزب الله، وحضوره القوي في الميدان، وتفوقه التصاعدي في الأداء، يتجه المشهد نحو مزيد من السخونة. فالمقاومة لا تكتفي بالدفاع، بل تنتقل إلى الهجوم بفعالية، مؤكدةً أن "إسرائيل" لن تستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ومع اشتداد ضرباتها اليومية على "تل أبيب"، وتوسيع نطاق استهدافها لتشمل مرافق حيوية واستراتيجية، يتعمق مأزق الاحتلال الذي بات يدفع ثمناً باهظاً لتصعيده غير المحسوب.

ما يزيد المشهد تعقيداً، هو الإدراك المتزايد داخل "إسرائيل" أن أزمتها لم تعد عسكرية فقط، بل سياسية واجتماعية أيضاً. إذ تتصاعد الانتقادات الداخلية ضد حكومة نتنياهو، وتنتشر مظاهر السخط في الأوساط الشعبية. هذه الانقسامات تضيف مزيداً من الضغط على القيادة الإسرائيلية، التي أصبحت محاصرة بين خيارين: إما النزول عند شروط المقاومة أو مواجهة هزيمة وجودية قد تضع نقطة النهاية في تاريخ الاحتلال. ومع اقتراب المعركة من مفترق طرق، سيكون الحسم في الميدان هو الفيصل، والميدان، كما هو معروف، لا يكذب أبداً.